محبرة الخليقة (37)
تحليل ديوان "المحبرة"
للمبدع الكبير "جوزف حرب"
د. حسين سرمك حسن
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
.. ويبدو أنّ وجدان الشاعر مرهف السمع ، فقد التقط جوزف حرب نداءنا (قبل أن نوجّهه إليه) لإدانة بعض الشعراء التافهين الذي دعوناه إليه ، شعراء دورهم أخطر من دور الفلاسفة والعلماء "التافهين" ، بسبب سحر الكلمة هذا الذي يملكونه ، والقدرة الكلّية المتبقّية من فعل الآلهة في فعلهم ، وشعور الإنسان بأنّهم في صدق مخيّلتهم واستعدادهم الداخلي الصادق يرقون على سلم النبوّة كما قال "الفارابي" قبل قرون طويلة . وجوزف حرب لا يدين "بعض" ، بل "كل" الشعراء من ذوي السيرة السوداء التي تناقض صفحات إبداعهم البيضاء :
( هل يعلمُ الشعراءُ ، أهلُ
الصفحةِ
البيضاءْ ،
والسيرةِ
السوداءْ ؟
أنّ المحابرَ عندهم
ليستْ محابرَ أجنحٍ زرقاءْ .
ذبحوا الذين أتوا إلينا قبلهمْ
ملأوا محابرهمْ بما قد أحرقوا في
الذبحِ أو
سكبوا
لم يملأوا يوماً محابرهمْ بحبرٍ ،
إنّما بدماءْ ،
حتى إذا كتبوا ،
فقد كتبوا
بدماءِ منْ قَتلوا
من الشعراءْ . – ص 1009 و1007) .
ولكن الشاعر نفسه يكشف لنا فوراً قوّة هذه الكارثة ، كارثة عدوانية الإنسان ، وأزلية ظاهرة الجلاد والضحية في الحياة البشرية ، في النصّ التالي : "قبيل كل نوم" . لاحظْ إن الكائنات في المملكة الحيوانية لا تُعذّب ، ولا يقتل بعضها بعضا إلا نادراً ، ولا يقطّع أوصاله ، أو يثقب اذنيه ويصبّ فيهما الرصاص المغلي . لاحظ أيضا - وارتباطاً بقسم الحرب السابق الذي هو أب وأخ لقسم الفن الأسود هذا - أننا لم نسمع بممالك حيوانية خاضت حرباً كونية وخسرت فيها 50 مليون فرد بين قتيل وجريح مثل الإنسان . ولاحظ أيضاً وأيضاً أن أغلب الحيوانات تكتفي في صراعاتها المسلّحة بـ "استعراض" القوّة ؛ فعندما يواجه حيوان حيواناً آخر فإنهما يبدءان باتخاذ وضعية خاصة ، فكلّ منهما يحاول إكراه خصمه على الإعتقاد بأنه ضعيف وفي خطر . وعندما يشتبكان فإن من النادر جدا أن يكون ذلك حتى الموت . وعندما يستسلم أحدهما فإنه يكشف قابليته للإنجراح أمام عدوّه ، بعرض "حنجرته" له . فلو عرض إنسان حنجرته أمام عدوّه في أيّ صراع مسلّح ، ألن يقطعها له ، ويتشفّى به ، ويمثّل برقبته ؟
ولأن هذه القناعة راسخة يتحوّل الشاعر – وسريعاً كما قلتُ – في النص اللاحق : "قبيل كلّ نوم" ، وبعد أن هاجم جميع الشعراء ذوي السيرة السوداء بعنف ، وبلا تردّد ، إلى "النكوص" في المواجهة ، من خلال التوسّل بالسبيل "الطفولي" لتحقيق الثأر من الظالمين القتلة ، وهو خيالات اليقظة والأحلام ، ففيها نستطيع الإنتقام من كلّ من ظلمنا ، بل من كلّ طغاة العالم وجلّاديه بلا حساب يخيفنا ، ومن دون تحديدات تضيّق علينا :
( إذا ظلمتني ، وما استطعتُ ردّ
الظلمِ عنّي بيديْ ، كأكثرِ الذي
ظُلِم ،
أغمضُ عينيّ على وسادتيْ ،
وأنتقمْ . – ص 1008 ) .
أنا – وقد يعتقد البعض أنني بذلك أناقض وضعي العلمي ، بل قد أبدو "متخلّفاً – ممن يؤمنون بالقدرة النفسية للمظلوم على إلحاق الأذى بالظالم بأحلامه وبدعائه وبصرخة روحه المهانة . قد تكون روح شاعر ، وهي كذلك حقّاً . وقد يكون هذا واحداً من أدوار الشعر وهو أن يسلّح المظلومين بكلمات تحمل قوّة رغباتهم البدئية المدمّرة . وأتذكّر صرخة المفكّر الراحل عالم الإجتماع "علي الوردي" في بداية الخمسينات ، وهو يذكّر الظالمين بقوى المظلوم النفسيّة في كتابه الذي سمّاه "الخارقية" أو "خوارق اللاشعور" :
(يقول علي بن الحسين : ( إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله ). وقد دلّ التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون المساكين ، آمنين من انتقامهم ، لابد أن يأتيهم من يظلمهم ولو بعد زمن طويل . فالمظلوم الذي لا يملك سلاحاً مادياً ينتقم به ممن ظلمه ، قد يملك سلاحا أمضى من السلاح المادي – هو سلاح النفس المكوّن من الدعاء الملتهب والصرخة الملهوفة التي تصعد إلى السماء كالشرارة . إن المتعلمين حين يحتقرون من هم دونهم في العلم ، والأغنياء الذين يحتقرون الفقراء ، والجلاوزة حين يحتقرون البؤساء من أبناء الشعب ، إنما يكشفون بذلك عن ذلّة أنفسهم وما في أغوار عقولهم الباطنة من شعور بالنقص دفين . وهذا النقص لابد أن يقضي عليهم عاجلا أم آجلا ، ولاريب ، لأن القوى النفسية ، أو صرخات المظلومين ، إذا اتجهت على ظالم أحرقته حرقا) (69) .
وبخلاف ما يعتقده الكثيرون الذين تبهرهم مظاهر القوّة التي يحيط الجلّادون أنفسهم بها ، فإنها لا تتناسب "طردياً" مع جسارة ووحشية الجلّاد البنيوية ، ولا تعكس قوّة تماسك عالمه الداخلي العدواني أبداً . فعالم الطغاة الداخلي هشّ ومملوء بمشاعر التهديد الدفينة . أغلب الطغاة يؤرّقهم إحساس عميق مقلق بـ "الإنخصاء" . الجلّادون في الواقع النفسي العميق "يُجلدون" كل لحظة بسياط العجز وانسلاب الإرادة . وصحيحٌ أن الإنسانَ مجبول من تظافر نزعتين للعدوان : نزعة خارجية تدميريّة ضد الآخر (حيّاً أو غير حيّ) ، وهي ممثلة بشحنات "السادية" التي تتمظهر – على سبيل المثال - في الحرب – هل نسمّيها "الفن الأحمر" ؟ - والتعذيب الذي سمّاه بعض الفلاسفة والعلماء "التافهين" بـ "الفنّ الأسود" ، ونزعة داخلية تدميرية أيضاً لكنها توجّه ضدّ الذات هذه المرّة لتدميرها ، وتتمثل في شحنات "المازوخية" . ويشكّل هذا المزدوج الغرائزي صورة مرآتية نفسية في الداخل لصورة : الجلّاد والضحيّة على أرض الواقع في الخارج . وقد عبّر الشاعر عن ذلك بدقّة حين خاطب الإنسان ، أيّ إنسان :
( في
الطينةِ البشريهْ ،
إثنانْ
ضدّانْ
يتقاتلانْ
في
ساحةٍ دمويّهْ .
يا
أيها الإنسانُ ،
إثنانِ فيكَ
وليسَ يفترقانْ ،
إثنانِ فيكَ :
معذِّبٌ وضحيّهْ . – ص 1004 و1005) .
وقد يتهم بعضُ السادة القرّاء الشاعرَ بأنه في نصّه هذا ، وكأنه يوفّر العذر البيولوجي العضوي لعدوان الإنسان على أخيه الإنسان ، فهو – أي جوزف – يضع علاقة الجلّاد بالضحيّة في صورة "غريزية" تلقائية لا تتطلب تعليماً أو تدريباً مثل الغرائز والدوافع الفسيولوجية الأخرى في الإنسان كالجوع والعطش والجنس وغيرها . فالشاعر يقول للإنسان أنّ هذا "قدر" طينتك التي جُبلت منها ؛ أن تتصارع فيها الشحنات السادية والمازوخية بلا هوادة ، وأن تكون روحك ساحة أبدية لصراعهما الدمويّ هذا . وستتسع دائرة التهمة والدهشة المفزعة حين أقول أن التحليل النفسي يؤيّد الشاعر . ففي رسالة إلى العالم الشهير "إينشتين" الذي استطلع رأيه في سرّ وحشية الإنسان التي تبدّت صارخة في الحرب الغربية الثانية قال معلم فيينا :
(إنّني لأخشى أن أستغل اهتمامك ، الذي هو بعد كلّ شيء معني بمنع الحرب وليس بنظرياتنا . ومع ذلك فإنني أودّ أن أتريّث لحظة فيما يتعلق بغريزتنا التدميرية ، التي لا تتناسب شعبيتها أبدا مع اهميتها . لقد توصلنا – نتيجة تأمل قليل – إلى ان نفترض أن هذه الغريزة تعمل داخل كلّ كائن حيّ ، وهي تكون من أجل تحطيم وردّ الحياة الى حالتها الأصلية ، حالة المادة غير الحيّة . وهكذا فإنها تستحق بكل جدّية أن تُسمّى غريزة الموت ، بينما تمثّل الغرائز الشبقية الجهد من أجل الحياة . وتتحول غريزة الموت الى الغريزة التدميرية إذا وُجهت – بمساعدة أعضاء حسّية معيّنة – إلى الخارج ، الى موضوعات . ويحافظ المخلوق الحي على حياته الخاصة – إذا جاز التعبير – عن طريق تدمير حياة خارجية . ومع ذلك فإن قسماً من غريزة الموت يظل فاعلاً داخل الكائن الحيّ ، وقد اقتفينا أثر عدد كبير من الظواهر السوية والمرضية لهذا الإنعطاف الداخلي للغريزة التدميرية . بل لقد اقترفنا ذنب نسبة أهل الضمير لهذا الإنعكاس نحو الداخل للنزعة العدوانية . ولسوف تلاحظ أن المسألة ليست تافهة إذا مضت هذه العملية لأبعد مما يلزم : فإنها تكون غير صحّية بالمعنى الإيجابي , ومن ناحية أخرى فإنه إذا تحوّلت هذه القوى إلى التدمير في العالم الخارجي ، فإن المخلوق الحي سوف يستريح ولا بدّ أن يكون تأثير ذلك مفيداً . ويصلح هذا لأن يكون مبرراً بيولوجياً لكل الحوافز الشريرة والخطيرة التي نناضل ضدها . ولا بدّ من الإعتراف بأنها تقع في موضع أقرب إلى الطبيعة مما تقع مقاوماتنا لها ، الأمر الذي يحتاج إلى تفسير ) (70) .
لكن ، هل دخلنا دائرة الأساطير ، وبدأنا نغمس أفكارنا العلمية في "محبرة" الميثولوجيا ؟
يجيب معلم فيينا :
(وربما يبدو لك كما لو أن نظرياتنا ضرب من الأساطير (الميثولوجيا) وأنها – في الحالة التي نحن بصددها – ليست حتى مقبولة . ولكن أليس كلّ علم يرتدّ في النهاية الى نوع من الأساطير كهذا ؟ ألا يمكن أن يُقال الشيء نفسه اليوم عن علم الطبيعة الذي تعمل به ؟ ) (71) .
والنتيجة تأتي صادمة بل مروّعة مثل التي قررها جوزف حرب في نصّه :
(فبالنسبة للفرض المباشر الذي نحن بصدده ينشأ هذا كلّه عن ما قلناه : لا فائدة من محاولة التخلّص من ميول الناس العدوانية . يٌقال لنا أن هناك – في مناطق سعيدة معيّنة من الأرض ، حيث تقدم الطبيعة بوفرة كل ما يتطلبه الإنسان – أجناس تمضي حياتها في هدوء ولا تعرف اندفاعاً ولا عدوانية . ولا أكاد اصدّق هذا ويسرّني أن اسمع المزيد عن هذه الكائنات المحظوظة) (72) .
لكن هذا التصارع بين ذراعين لنفس الدافع الغريزي يتضمن أيضاً أسراره التي يمسك بواحد منها الشاعر ، وهو الذي يؤكّد على أن انتفاخ الطاغية العدواني المفرط هو تعبير عن شعوره بالإنخصاء في لاشعوره :
( لم يرتكبْ طاغيةٌ مجزرةً ، ولمْ
يُحِطْ أيامهُ ، بالجندِ ، والحرّاسِ ،
والسجّانْ ،
إلّا ليخفي سرَّ أنهُ طينٌ ، ووحشٌ ،
وجبانْ . – ص 1012) (نصّ "سرّ") .
وحين يقول معلم فيينا - واصفاً القدرة الإستكشافية التي يمتلكها المبدعون على الغوص في الأعماق المظلمة للنفس البشرية ، والإمساك بمفاتيحها الأساسية - بالقول :
(إن الشعراء والروائيين حلفاء موثوقون ، وينبغي أن تثمن شهاداتهم عاليا ، لأنهم يعرفون أشياء كثيرة ما بين السماء والأرض ليس بمقدور حكمتنا المدرسية بعد أن تحلم بها . إنهم أساتذتنا في معرفة النفس ، نحن الناس العاديين ، لأنهم ينهلون من ينابيع لم نجعلها في متناول العلم بعد) (73) .
فإنه يعبّر عن واقع تاريخي فنّي ، أثبته جهد المبدعين الخلّاق في نتاجاتهم التي تتناول مجاهيل النفس البشرية ، ومنها "محبرة" جوزف حرب هذه ، حيث يمسك الشاعر بسرِّ "صغير" آخر فائق الغنى في إضاءة منطقة شائكة شديدة العتمة في تكوينها والتظافر المعقّد لعواملها ، وفي السلوك الإنساني العدواني بشكل خاص ، وهي الضمير الذي يحتار المراقب حين يرى أنه لا يردع الإنسان عن ارتكاب أحط الأعمال وأكثرها شراسة في الحرب ، وعن إيقاع أفظع أشكال الالم والتشوّهات بأخيه الإنسان في التعذيب : هل هو – أي الضمير - من الممكن أن يتقبل "رشىً" من مثاله في صورة نيل رضا الأب الأكبر .. أو من "داخله" بإطفاء جانب من جمرة الخطيئة الموصوم بها حامله الإنسان .. من الأنا حين تنتفخ نرجسيّته بالأهداف الكبرى التي يكون السبيل إليها مفروشاً بالدم والمخاطر .. أو حين يتصافق مع الهو الطفلي اللاهث وراء إشباع يدفع الضمير أمامه ككاسحة ألغام لتطهير الطريق من النواهي الرادعة .
إذن ما الذي سيفعله الضمير بعد ذلك ؟
هل يصحو بعد الجريمة على الخديعة ، فـ "يسوّد" عيشنا كما يُقال ، وينغّص علينا حياتنا بالشعور الثقيل بالإثم الذي سوف يُفسد علينا أيّ متعة تترتب على الظفر السادي ؟ أعتقد أن هناك دلائل كثيرة على ذلك :
( لا يمنعُ الجريمةَ الضميرُ ، أو
يخافُ منْ
عقابها ،
يمنعنا منْ أيِّ لذّةٍ بها ،
بعدَ ارتكابها . – ص 1016 ) (نصّ "الضمير") .
هل سيتحمّل السادة القرّاء الصراحة الجارحة للشاعر وهي جزء من رسالته في قصّة خليقته الحديثة هذه ؟ ضميرنا من الممكن أن يتواطأ !! أطروحة تشتغل كل مقاوماتنا النفسية وروادعنا الدينية ونواهينا الأخلاقية لرفضها رفضاً مطلقاً . لكن هذه واحدة من الحقائق الكبرى التي يمتاز التحليل النفسي بكشفها والجرأة على المجاهرة بها . فيندر تماماً أن يكون فعل بشري ما نتيجة دافع غريزي واحد وهو ما لا بدّ أن يكون مركّباً من شبق وتدمير . إنما لا بد – كقاعدة – لجعل فعل ما ممكناً – من وجود رابطة بين هذه الدوافع المركبة .. وهكذا فإنه عندما يتم تحريض الكائنات البشرية على الحرب قد يكون لديهم عددا كبيرا من الدوافع للتصديق عليها - بعضها نبيل وبعضها وضيع ، بعضها يتحدّثون عنه صراحة وبعضها الآخر يلتزمون الصمت بشأنه ، ولا حاجة بنا لأن نعدّدها جميعاً . ولكن من المؤكّد أن شهوة العدوان والتدمير من بينها : والبشاعات التي لا تُحصى في التاريخ وفي حياتنا اليومية تشهد على وجودها وعلى قوّتها . وبطبيعة الحال فإن قوة جاذبية هذه الدوافع التدميرية يسهّلها امتزاجها بدوافع أخرى من نوع شبقي ومثالي . وعندما نقرأ عن المذابح الجماعية التي كانت تُرتكب في الماضي فإنه يبدو أحيانا كما لو أن الدوافع المثالية كانت مجرّد ذريعة للشهوات التدميرية ؛ وأحياناً – كما في حالة الفظائع التي ارتكبت في محاكم التفتيش – يبدو كما لو أن الدوافع المثالية قد تقدّمت في الشعور ، بينما اكتسبت الدوافع التدميرية تعزيزاً لاشعوريا ، وقد يصح كلاهما) (74) .
ولو تأملنا ما يقوله جوزف حرب وهو في طليعة الشعراء المحبين للإنسان وللحياة والأرض ، لوجدنا فيه حكمة عميقة لكن صادمة ومستفزة بل جارحة ، وعلينا نحن أنفسنا أن نروّض ذواتنا لاستقبالها وتأملها بهدوء . وهذا هدف مضاف من أهداف محبرة خليقة جوزف حرب هذه ؛ ترويض ذواتنا على قبول حقائق طالت آماد نكرانها ودفن الرؤوس عن مواجهتها لأنها تخدش صورة ذاتنا المثالية الجمعية ، هذه الحقائق تاتي الآن من صديق مخلص تغنّى بنا ولنا طويلا بعزم ومصداقية عالية . هذا نبأ يأتيكم من شاعر مؤمن بالإنسان ، وحريص على ما عنتم .. فخذوه :
( إنّ الذي ضمّتهُ في ألواحها
السودِ
النعوشُ ،
وحشٌ تودّعه
بمأتمهِ الوحوشُ . – ص 1020 ) (نصّ "وداع") .
ولا تدعوا مقاوماتكم النفسية العميقة المنافحة عن نرجسيتكم المشروعة تحفزكم إلى موقف الرفض القاطع المسبّق ، حتى لو كان ما يقوله جوزف بهذه الحدّة المتطرّفة التي تجعله لا يتوقّع من هذي الأرض لو صارت غيماً أن تمطر غير الدماء :
( لو أنّ هذي الأرضَ
غيمٌ
زمنَ الشتاءْ ،
وعُلّقتْ في ريحها ،
ما أمطرتْ سوى الدماءْ . – ص 1024) (نصّ "مطر") .
أو حين يرى عطش الإنسان للدماء عطشاً أبديّاً لا يمكن إطفاؤه كالشارب من ماء البحر ، كلما زاد شرباً زاد عطشاً :
( كلُّ عِطاشِ الدمِ لا ترويهمُ
في الأرضِ ، فؤوسٌ ، مقصلةٌ ،
ومذابحْ ،
كالشاربِ
من ماءٍ مالح . – ص 1028) (نصّ "عطاش") .