عنصرية بلا حدود
لا أدري إلى أين سيأخذنا الخطاب العنصري في لبنان؟
من الواضح أن هناك لعبة سياسية، يعتقد وزير العهد جبران باسيل أنه يلعبها بمهارة. اسم هذه اللعبة هو إخراج شياطين العنصرية، والشعور بالتفوق الوهمي من أوكارها، بهدف الهيمنة على الشارع المسيحي. فبخطاب «التفوق الجيني»، يعتقد الوزير، أنه يستطيع أن يرث بشير الجميل وكميل شمعون دفعة واحدة، ويتحول إلى زعيم أوحد للمسيحيين، تمهيداً لخلافة عمه في رئاسة الجمهورية.
وبصرف النظر عن أن الرجل لم يتعلم شيئاً من دروس الماضي، فإن خطاب السيد باسيل التحريضي ضد اللاجئين السوريين وقيادته حالة الذعر والتخويف، مدعوماً ببعض الأجهزة الأمنية، صنع مناخاً من الاضطهاد والقمع والكراهية لم نشهد مثيلاً له إلا في بعض المراحل الأكثر سواداً في زمن الحرب الأهلية. ومثلما قاد الخطاب العنصري ضد الفلسطينيين «الغرباء» إلى خطاب عنصري ضد الطوائف اللبنانية الأخرى، فلقد أثبت الخطاب العوني-الباسيلي أنه نذير تأجيج الصراعات الطائفية، ولم تكن لعبته في الجبل إلا إشارة دموية للكارثة التي يؤسس لها هذا العقل العنصري المنتفخ بوهم القوة.
لبنان الذي ابتلي بحكم طبقة المافيويين التي تتغطى بالبنى الطائفية، والذي تحوّل إلى ما يشبه فيدرالية زعماء الطوائف الذين قادوا البلاد إلى شفير الهاوية الاقتصادية والاجتماعية، يجد نفسه اليوم أمام لعبة صبيانية نزقة تتوسل العنصرية ضد شعب اللاجئين السوريين، كأنها ارتضت أن تكون سوط النظام الاستبدادي الذي قرر أن يستخدم الحماقات اللبنانية في سبيل اضطهاد الشعب السوري في منافيه.
يكرهون الشعب السوري ويحبّون بشار الأسد!
يا لهذه الأيام العجيبة التي سلّطت على لبنان هذا المنطق السياسي الأحمق، الذي يضعنا أمام خيار إما أن نقبل بتسلّط المتسلطين وإما الخراب والحرب.
التمادي في لعبة العنصرية، التي تخبئ مخزوناً طائفياً كريهاً، له نهاية واحدة اسمها دخول لبنان في مجهول التفكك.
السيد باسيل، ومن لفّ لفّه، يعتقد أنه محمي ببندقية حزب الله، وهذا صحيح، لكنه ينسى أو يتناسى أنه لا يمتلك قرار القوة التي تظلله، وأن خطابه منذ انحياز تياره السياسي إلى الديكتاتور السوري، فقد مبرر وجوده، وحوّل شعارات السيادة والاستقلال إلى لغو لا معنى له.
نحن أمام تكرار المكرر.
مشروع السيد باسيل هو الوصول إلى الرئاسة بقوة بندقية حزب الله، أي بقوة الانقلاب شبه العسكري، وهو يستند في افتراضاته إلى واقعة وصول عمه إلى الرئاسة، حين رضخ الجميع لمنطق التعطيل، وقاد انهيار كتلة 14 آذار، كانعكاس لهزيمة حلفائها الإقليميين، إلى انتخاب الجنرال عون رئيساً.
لكن باسيل يظن أن تحالفه مع حزب الله ليس كافياً، بل عليه أن يتحوّل إلى الزعيم المسيحي الوحيد، فاستعاد في سبيل ذلك شعارات وسموم الحرب الأهلية، معتقدا أنه يستطيع اليوم تعطيل مجلس الوزراء بالثلث المعطّل الذي يمتلكه، وهذا يسمح له بالهيمنة على القرار السياسي.
وزير العهد، أي وزير السلطة، يهدد بتعطيل السلطة! هذا هو منطق البعث السوري. «الأسد أو لا أحد»، الذي صنع خراب سوريا، أما في لبنان فإن «المارونية السياسية» بصيغتها العونية الجديدة تهدد بأن بقاء لبنان مرهون بتسلطها. وهذا يذكّرنا بمقولة مؤسس حزب الكتائب الذي ساوى بين الكيان والنظام السياسي الطائفي اللبناني.
لبنان يواجه اليوم المعضلة نفسها، فالقوى السياسية الطائفية الأخرى لن تقف وتتفرج على عودة الهيمنة المارونية، حتى وإن كانت قناعاً لهيمنة حقيقية يمارسها حزب الله.
هذه العودة إلى المربّع الأول الذي افترض الجميع أن لبنان خرج منه بعد نهاية الحرب الأهلية، هو تعبير عن عجز البنى الطائفية جميعها عن الحكم. فالمافيات كي تحكم عليها أن تراعي التوازنات الدقيقة بين مكوناتها. لكن تاريخ المافيات يعلّمنا أن توازناتها معرضة دائما للانهيار وإعادة التركيب لأسباب متعددة، لذا فإن علاقاتها ببعضها البعض هي كناية عن دورات عنف متتابعة.
قوة المافيات اللبنانية يكمن في استنادها إلى بنية طائفية تعيد الدولة إنتاجها بشكل دائم. لكن الطائفية تحمل في داخلها بذرتين:
1- الخوف من الآخر، التي تتشكل كمخزون عاطفي يشدّ عصب القبيلة، ويجعلها أسيرة الانغلاق، ويعمي الأبصار عن رؤية الحقائق السياسية والاجتماعية.
2- التعالي، فبذرة الخوف سرعان ما تتحول إلى شعور بالتعالي على الآخرين، وإلى عنصرية متشددة، تنادي بالتفوق، وتتصرف بعنجهية، ما إن تمتلك فرصة لذلك.
عنصرية الطائفيين ليست مستغربة، فأحد معاني الطائفية هي أنها ظاهرة عنصرية، فحين تكون عنصرياً تجاه اللبنانيين الآخرين، فمن السهل والمنطقي أن تتحول إلى عنصري ضد «الغرباء».
لقد وجدت العنصرية الطائفية في السوريين ضحيتها المثالية، فهم شعب لا مرجع له، النظام السوري لا يعترف بمظلوميتهم، لأنه أكبر منتج للظلم والقمع في حقهم، كما أنهم فقراء ومشردون أتوا إلى لبنان هرباً من الموت، فوجدوا الإهانات والتهديد والطرد تنتصب في وجوههم.
لا حدود لكبرياء الوضعاء، ولا ضابط لظلم الأذلاء، خصوصا ًإذا تزامن ذلك مع شعور بأن السلطة في أيديهم، وبأنهم ينفذون أجندة إقليمية محمية ببندقية حزب الله، التي سبق لها أن أثبتت فاعليتها في سوريا وضد الشعب السوري.
جبران باسيل ليس سوى إحدى ظواهر صعود اليمين الفاشي في العالم، لكن مشكلته أن الفاشية الطائفية في لبنان لا تستطيع أن تكون سوى فاشية صغيرة، وأن الطموح لحكم لبنان الكبير بالهيمنة والتسلط لا يقود إلا إلى الكوابيس.
هذا المناخ العنصري يحاصر لبنان بالعار.
نشعر بالعار ونحن نرى اليافطات المرفوعة في الشوارع.
نشعر بالعار ونحن نرى الخوف والمهانة التي تنتشر في صفوف اللاجئين السوريين وهم يشهدون تدمير مخيماتهم وملاحقتهم اليومية
نشعر بالعار ونحن نشهد على تسليم شباب سوريين للسلطة الحاكمة في دمشق.
نشعر بالعار ونحن نشهد هذا الانحطاط الأخلاقي.
نشعر بالعار لأن صوتنا لا يُسمع وسط هذا الضجيج العنصري.
إنه عارنا الجديد، الذي يجب أن نجد وسائل لمقاومته، كي لا نخسر أرواحنا وإنسانيتنا.