قصة من حياة المناضلة بلقيس قباني
لهم أسماؤهم الجديدة وآهات منحوتة بالصبر:
د. سماح هدايا
لرائحة الدم عن بعد لزوجة متخيّلة من نتنٍ وزفر وزناخة. وتتفجر فينا الدموع خوفا وقهرا وحزنا وتختلط بأوجاع تتقمص أرواحنا. لكنهم هناك ليسوا مثلنا هنا بعيدا عن تفاصيل المأساة في الوطن: هذا ماقالته لي هي التي تحارب هناك في قلب المعركة.
نعم لهم أحاسيسهم وأوجاعهم وآلام شديدة. ومحاصرون بالفجائع والمآسي. ولهم أسماؤهم الجديدة وآهات منحوتة بالصبر؛ لكنهم انغمسوا بالمعركة. متشبثون بقوة بالوطن. ينغرزون في ترابه ويتجذرون في شرايينه.
امرأة مناضلة من ثوار الأرض في مدينة دمشق وريفها، سألها صديق لي أن تكون جزءا من مشروع فكري سياسي فيه كوّة حلم بالغد ، فعاجلته برد غاضب من قلبها الخافق بالمعاناة والمأساة، وأجابت بلهجة مستنكرة أنها ترفض العمل في متاهات السياسة وواجهاتها. ولا تؤمن بأي فعل لا يفيض بشرف المعاناة الحقيقية اليومية للشعب ولا يقطر بقسم الوفاء المطلق للوطن. وليس فيه دم من مخاض الملحمة الثوريّة . فكثيرة جدا هي عمليات سلب النضال الوطني وحالات اغتصاب للوطن تحت راية حماية الوطن. وكثيرة هي الصفقات التي تنبت من تربة الغنيمة، حيث يتقاسم الربح الوفير قطيع من المعارضين والمتثورين على هامش الدم السوري وفوق مخاض المعاناة والمأساة.
وكنت مهتمة جدا بأن تشاركنا هذه المناضلة تجربة سياسية، فكررت أنم نحاورتها في الأمر، وحاولت أن أبيّن لها أهميّة وجودها في المجال السياسي وفي نشاطاته بما يخدم الإغاثة والثورة، فأعادت الرفض وأصرّت على أن العمل السياسي الحالي في شوارع المعارضة السوريّة شبيه بالصالونات والدكاكين التي تكتظ باللوحات الاستعراضية. وقالت لي كلاما أذهلني وتركني أمام حقيقة المشهد المخيف وجها لوجه مصدومة بعري الحقيقة. قالت: "أنا صديقتي لا أصلح للمشاركة في صالونات المعارضة؛ لأنني تعمدت بالدم والمآسي. حملت بيدي هذه أشلاء الأطفال والنساء والشباب والرجال والشيوخ. تضرجت بالدماء حتى أعماقي ونخرتني رائحة الموت والقتل والوحشية حتى النّخاع...أحاول تضميد الجروح بما قلّ من شاش وقماش وألبسة. لا دواء يكفي. لا إسعافات تقي من الألم والموت. ولا تحصين أمام الاقتحام الوحشي لعصابات النظام وكتائب الإجرام والإرهاب. أحاول تضميد الجروح؛ لكنّ الجروح غائرة في قلبي. تخيّلي أني دفنت الموتى بيدي.. دفنت الأشلاء والجثث المشوهة والممزقة والمحروقة. وكنت من قبول أتحاشى زيارة القبور والمدافن.
أنا تعبت ركبتاي من كثرة ما حملت من الجرحى وركضت بهم. أسرعت إلى هنا وهناك لعل أحدا من يأتي من السماء ويساعدني. اصوات أوجاعهم تذبحني.
قدماي اللتان كانتا رقيقتين في الحذاء العالي, تصلبتا في بسطار المعركة وأنا أسرع خفية لأهرّب للناس المحاصرين رغيف خبز وشربة ماء. أدخلت الشاش والكحول. وذلك كله لم يجد نفعا؛ فحملت البندقية وقتلت بيدي، قتلت يا أختي دفاعا عن نفسي وعن أهلي. قتلت من الذين كانوا يهاجمون أحياءنا ونساءنا ويذبحون اطفالنا. نعم انا صرت قاتلة، وليس لمرة واحدة، ولست أحب أن اعطيك الرقم حتى لا أتحول في ذهنك أنت التي تراقبين عن بعد المشهد إلى إرهابيّة.".
ياصديقتي ماذا تريدين بعد كل ما قلته لك؟ هل تريدن مني أن أمارس المعارضة السياسية وأرتدي الملابس الأنيقة وأحضر المؤتمرات وأتصوّر وأظهر على الفضائيات وأتوسل المساعدة او اراوغ طلبا للإغاثة.
ياصديقتي لن اتقلد طوق ياسمين، وأبتسم وأمد يدي لأعوان المجرمين والصامتين على الإجرام أحاور وأتوسّل وأستجدي وأهرول من مؤتمر لمؤتمر في قاعات البذخ والإسراف. وأحث خطواتي لمحادثة وفنجان قهوة مع ذاك السياسي أو لشراكة في حزب جديد أو لحوار مع أولياء المانحين على وهم مساعدة أو نصر أو سلام. شعبنا يريد سلاحا ليحارب عصابات الإجرام المتجذرة في السلطة. شعبنا يريد الحرية والكرامة وينشد العدالة. والحق، يحارب ظالمه. وليس أمامه إلا المعركة، وهي بشعة جدا. ولا سلاح لديه إلا دمه والإيمان ...
شكرا لك صديقتي. وأقدر ما تفعلونه لنا في الخارج من أجل دعم الثورة. لكن لا شيء يمكن أن يقارن بالشجاعة والبسالة في السخاء بالدم. شعبنا لا يريد منكم إلا الإخلاص له، ودعمه من دون شروط ومن دون حساب ولاءات."
وقبل أن تودعني وتقفل الحديث فاجأتني بقولها: "أولادي ليسوا بأغلى من أولاد وطني. تركتهم وتركت زوجي وتركت عائلتي وانتسبت إلى المعركة. هم يهربون من مكان لآخر. وأنا محكومة بأكثر من حكم إعدام وحكم إعدامي هذا من دون قضاء. ورأسي مطلوب؛ لكنني لست خائفة. فمن ترك سقف بيته وحضن عائلته، وخرج يقاوم الخطر ليتخلص من العار والمذلة والخوف، لا يبالي بأحاسيس الخوف والضعف ولا يركع إلا للحق. سلام لك ولكل مخلص"
ووجدت نفسي عاجزة عن قول كلمة واحدة؛ فقد كشفت أمامي أوراق الحقيقة وأدركت كم نحن ضعفاء، وكم نحن واهمون وكم نحن مثرثرون وأحيانا تافهون. وفارت من بقايا كلماتها الباقية على الصفحة رائحة دمهم السخي الأسطوري ضحايا الحرية والكرامة وشهداء الثورة في بلدي، ولم أستطع أن أمنع الدموع من التفجّر، وحاصرني القلب بوجع الذنب..وكانت العاصفة خارج البيت تضرب بشدة في كل مكان؛ كسّرت الياسمين في الشرفة. وكسّرت الورد. حتى بعض أغصان أشجار اللوز والزيتون في الحديقة تكسّرت...وتخيّلتهم هناك في الوطن، يركضون في العراء وفي الخيم تتلوى أجسادهم تحت العاصفة...وفكرت: متى سنكسر المعتاد والمقبول، ونتخطّى موقف الاستمتاع بالفرجة على العاصفة وما يرافقها من لذة الإحساس بأمان البيت ودفئه ونعمة الاحتماء من العاصفة؟
إنّا مازلنا نشاهد العاصفة من خلف زجاج واق سميك عازل، نستند إلى إحساسنا المحمي، بينما هم؛ فقد كسّرت العاصفة بيوتهم وملاجئهم. وهناك كثير كثير من أهلنا بلا ملجأ ولا أمان ولا أمن.