الثورة السورية: العبرة بالنهايات
الثورة السورية:
العبرة بالنهايات
د. عبد الكريم بكار
ليس هناك جدال في أن الثورة السورية من أعظم الثورات التي شهدها العالم في العصر الحديث، وهذا ليس بسبب الانتصارات التي حققتها أوالقوة التي تُستخدم فيها، وإنما بسبب نبل مقاصدها وقدرتها الفائقة على إعادة صياغة أعداد كبيرة من السوريين على نحو مبدع وفريد، وأيضاً بسبب التضحيات الهائلة التي قدمِّت في سبيل نجاحها، وهذا يحمِّل كل ثائرسوري مسؤولية حماية الثورة والعمل على تحقيق هدفها الأسمى في التحرر الوطني .
ولا بد لي في البداية أن أقول : إن من الطبيعي أن يؤدي طول فترة الثورة إلى نفاد صبر بعض الناس وإلى يأس بعض آخر، كما أن من الطبيعي أن يتسلق على الثورة من ليس من أهلها، ومن الطبيعي أيضاً أن تُظهر الشدة التي يمربها السوريون بعض السلوكيات السيئة التي تتنافى مع روح الثورة، كما تتنافى مع كثير من أحكام الشريعة وآدابها، كل هذا طبيعي جداً، والمهم دائماً هي أن تظل الكتلة العظمى للثوار ماضية في الطريق المستقيم .
إن ما أكتبه هنا اليوم لا يعبر عن مخاوفي على الثورة بمقدار ما يعبر عن حرصي على نقائها ونجاحها في أسرع وقت ممكن وبالروح التي بدأت بها . وهذا يدعوني إلى أن أشيرإلى الأمور التالية :
1ـ طول الامتداد يقتل الاتجاه، كما يقتل المكانُ الزمان، وهذا ما سماه الله ـ عز وجل ـ طول الأمد حين قال : (( ...فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )) وهذا يملي علينا جميعاً أن نتشبث بالأهداف الأولى للثورة، وأن نحافظ على كل المعاني والأخلاقيات التي واكبت انطلاقتها، وأنا أعرف أن وعينا بما يجب أن يكون لا يكون كاملاً في البداية، وأعرف أن مقتضيات عديدة قد تطرأ على الحراك الثوري، فتحمل الثوار على التخلي عن بعض الأمور، وممارسة ما كانوا يعدونه خطاً أحمر، لكن علينا أيضاً أن ننظر إلى كل هذا على أنه (تحويلة) في طريق سريع، فنحن نحرص كل الحرص على تجاوزها والخلاص منها وإلا فإننا لا نعرف فضل الطريق السريع ولا ميزات السير فيه . الثورة بدأت من أجل استرداد الكرامة المهدورة والحقوق المغتصبة، ومن أجل مقاومة طغيانٍ أهلك الحرث والنسل، وقد كان واضحاً في أذهان جميع الثائرين أن نجاح الثورة لن يتم من غير وضع كل الاحتياطات وسد كل المنافذ التي يمكن أن يعود منها الاستبداد مرة أخرى، والضمانة الوحيدة لذلك هي إقامة حكومة عادلة حرة يختارها الناس بملء إرادتهم، ويكونون قادرين على محاسبتها وعزلها وإقامة بديل عنها من غير إراقة دماء .
2ـ حدثت أعمال مخزية وفظائع مذهلة كاغتصاب النساء وقتل الأبرياء ونهب البيوت وحرقها من قبل أناس هم من سفلة المجتمع وكثير منهم ينتمون إلى الطائفة التي ورطها النظام معه، والرد على ذلك ينبغي أن يكون بمحاكمة من صدر منه ذلك إذا أمكنت معرفته،أما التخريب والقتل الذي ارتُكب من قبل مجهولين، فإن على الدولة أن تتولى تعويض المعتدى عليهم، هذا هو المسلك الذي يتناسب مع أحكام الشرع وأخلاقيات الثورة، وأي تصرفات انتقامية أو ثأرية من أي كان هي تصرفات خاطئة ومدانة، وينبغي أن يُحاكَم فاعلها . إن التمسك بهذا المبدأ ضروري جداً من أجل وقاية النسيج الاجتماعي من مزيد من التصدعات والشروخ، وهو ضروري قبل كل ذلك لإقامة موازين الحق والعدل .
3ـ تكتسب الثورة مشروعيتها من المساحة الفاصلة بينها وبين النظام المجرم الذي تحاول الإطاحة به، وهذا يعني أن على المجاهدين على وجه أخص أن يحرصوا على أملاك الدولة والممتلكات الخاصة، وألا يدمروا الأسلحة التي تقع تحت أيديهم، وإنما يحرمون النظام من استخدامها بإحداث بعض العطب فيها، وعلى الثوار جميعاً أن يبذلوا كل جهد ممكن في خدمة الأهالي والتعاطف معهم، والتخفيف من معاناتهم، فالثورات تنجح حين يشعر الناس أنهم قد صاروا إلى وضع أفضل من الوضع الذي كانوافيه ويشعرون باسترداد بعض ما سُلبوه من حقوق قبل الثورة .
إن الوفاء لدماء الشهداء لن يكون بشيء سوى الإصرار على أهداف الثورة وإقامة النظام السياسي الذي يقطع مع الماضي المظلم، ويفتح آفاقاً جديدة لحياة تليق بالرجال العظام الذين صنعوا الثورة، وسقوها من دمائهم الزكية .