قداسة الحبر الأعظم
قداسة الحبر الأعظم
ميشيل كيلو
أحببت أن أخاطبك باسم الله، الذي يسميه الإسلام: الرحمن الرحيم. أنا يا صاحب القداسة لست مؤمناً بكل ما أتت به الأديان، لكنني أعتقد أنها هي التي حفظت وجود الإنسان وتالياً الجنس البشري، عندما جعلت حياة الأول مقدسة وجعلته هو على صورة ومثال خالقه الذي هو القداسة عينها. في نظري، إن حفظ الحياة هو أعظم ما أتت به الرسالات السماوية، فلولاه لما كان هناك اليوم هذه الإنسانية التي نراها، ولما كنا نعيش إبداعاتها وإنجازاتها، ولما كنا كائنات مفعمة بالعيوب والنواقص، وبشراً يملكون شيئاً مقدساً هو حياتهم التي وهبها خالقهم لهم، وهو يصرف النظر عن حماقاتهم وأخطائهم الكثيرة، لأنه رحمن رحيم.
أنا يا سيدي سوري وعربي و… مسيحي، مواطن ينتمي إلى منطقة عرفت خلال تاريخها الطويل والمتقلب كيف تجعل مكوناتها البشرية والدينية والثقافية والسياسية تتعايش بعضها مع بعض. صحيح أنها لم تعرف نظرية التسامح، لكنها عاشت التسامح نفسه ومارسته قبل أن يضع «جون لوك «كتابه العظيم بمئات السنين، ولا شك لدي في أن قداستك تعرف وتقدر أن تكون هي التي وضعت معظم المفردات التي أسست الحضارة الإنسانية: من الدين، إلى الفكر المجرد، إلى الأرقام، والزراعة، وتدجين الحيوان، وصهر المعادن، إلى الدولة، وأساليب السيطرة على الطبيعة، إلى الكتابة، والموسيقى، والرسم والرقص… وتعلم أن الإسلام: آخر أديانها يرى في رسالته صحيح كل الأديان السابقة له، لذلك تراه يكن لها أصدق الاحترام. ويكفي أن تقرأ قداستك ما يقوله القرآن عن المسيح، «روح الله»، وأمه مريم العذراء، «أطهر نساء العالمين»، حتى ترى الفارق بين نصه وأي نص آخر كتب عنهما في أي تاريخ. يكفي يا صاحب القداسة أن تذكر اسم المسيح أمام أي مسلم حتى يسميه بخشوع: «سيدنا عيسى عليه السلام»، واسم أمه حتى يقول بإجلال «ستنا» (سيدتنا) مريم، ويضيف: عليها السلام.
أخيراً، تعلم قداستك أن المسيحية تعيش في هذا الشرق: موطنها الأصلي، منذ نيف وألفي عام مع أديان ورسالات أهمها الإسلام، الذي لم يأت كي يلغي ما قبله، بل ليستوعب صحيحه ويجعله جزءاً تكوينياً منه: لذلك ترانا، مسلمين بهذا البعد الروحي والفكري العميق، فالإسلام يحمل شيئاً من مسيحيتنا، كما يعتبر المسلمون مسيحيين في جزء من ديانتهم السمحاء، وإلا لما كانوا قد احترموا وجودنا التاريخي بينهم، مع أن دينهم تبشيري، ولما تذكروا دوماً أن رحمة الله تلزم المسلمين بالرحمة تجاه مخلوقاته. صحيح أن الأمر لم يكن دوماً على هذه الصورة، لكنه كان هكذا أو قريباً منه في القسم الأعظم من التاريخ، وإلا ما الذي يفسر بقاء المسيحية في الشرق بعد الحروب الصليبية، التي أسماها المسلمون حروب الفرنجة كي لا يدنس ذكرها اسم الصليب؟ ومن حمى المسيحية والمسيحيين بعد هزيمة الفرنجة الساحقة على يد جيوش مسلمة شارك المسيحيون فيها؟ أقول لقداستك بكل صراحة: إن انتماءهم إلى المسلمين وانتماء هؤلاء إليهم هو الذي حماهم: ألم يفتح مسيحيو المدن السورية أبواب مدنهم أمام جيش أبناء عمومتهم المسلمين، كي يزيحوا عن وكاهلهم عبء مسيحيي بيزنطة الروم؟ ثم، ألم يصرخ مقاتل مسيحي في جيش أولاد عمه وأهله المسلمين خلال معركة القادسية ضد الفرس: قتلت رستم ورب الكعبة، حين أردى قائد جيش الفرس؟
… واليوم، هناك محاولات كثيرة لفصم هذه الشراكة التاريخية، تقوم بها جهات متنوعة تنتمي إلى الجانبين المسيحي والمسلم، فضلاً عن مؤسسات وتنظيمات متشددة متعصبة، تبنت وجهات نظر مذهبية وقراءات فقهية بلورتها أكثر مناطق العالم الإسلامي تأخراً وتزمتا، لا تصارع المسيحية وحدها، بل قبلها وأكثر منها الإسلام الوسطي، الذي نشره العرب في كل مكان ويرون فيه اليوم أيضاً قراءتهم لدينهم الحنيف، الذين هم مادته.
بالمقابل، هناك كنائس مسيحية متطرفة ترى المسلم بعين العدو الذي أجبرت على العيش مكرهة معه، ولا تراه بعين الشريك والقريب، الذي لطالما تفاعلت معه في رحاب رحمانية الله ورحمته. وهناك أحبار يعتبرون أنفسهم مقاتلين يخوضون معركة متأخرة كان يجب أن تحسم منذ زمن طويل، هم اليوم طلائع ورواد فيها، يسعرون نارها التي تحرق المؤمنين من الجانبين، وتعانق النار التي يشعلها أمثالهم من مجانين المسلمين.
المشكلة يا صاحب القداسة أن هؤلاء يسندون ظهورهم إليكم، ربما من دون علمكم، ويخوضون معركتهم تحت رايات يزعمون أنكم ترفعونها بدوركم، ودين يقولون إنهم يشتركون معكم في رهاناته، وأنكم جزء من عالم يزعمون أنه ضد العرب والمسلمين، لن ينتصر بغير حرب دينية ضارية لا يجدون لها سابقة في تاريخنا الشرقي، فيريدونها على صورة تلك الحروب التي نشبت بين المذاهب والطوائف المسيحية في أوروبا عند مطالع العصر الحديث، ويرون أنفسهم يخوضونها على الجانب الأوروبي، وجانب قداستكم وما تمثلونه، فلا بد من أن تتوجهوا إليهم بكلمات لا لبس فيها، تعيدهم إلى صوابهم، وتذكرهم أنه ليس هناك ولن يكون هناك حرب مسيحية إسلامية، وأن على المسيحية أن لا تدعم أية حرب ضد أي كان، وخاصة منها الحرب التي يشنها النظام السوري ضد شعبه باسم مكافحة إرهاب لطالما رعاه واحتضنه ودرب عناصره وتحالف مع قواه واستخدمها داخل سوريا وعلى مستوى المنطقة العربية والإسلامية، أو بأي اسم آخر، ما دام «قتل النفس التي حرم الله»، بتعبير القرآن الكريم، جريمة لا غفران لها، ولأن طائرات النظام السوري لا تقتل أعداء المسيح، بل تقصف مدناً وقرى آمنة يستحيل أن تميز بين الإرهابي والأعزل من أطفالها ونسائها وشيوخها وشبابها، وتقتل على الأرجح المئات من العزل والأبرياء مقابل كل مسلح ممن أرغمهم العنف الرسمي الأعمى والمتواصل على حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم.
لا يخوض النظام السوري معركة الدفاع عن المسيحية، كي يحظى بتعاطف كنائس وكهنة مسيحيين، بل يقاتل دفاعاً عن استبداده وامتيازاته وقدرته على امتهان كرامة الإنسان، متذرعاً بعلمانية، هي في حقيقتها دين سلطة، يرغمك على عبادة قادته ورموزه، باعتبارهم آلهة سياسيين تفرضهم الشمولية، كآلهة تعبد على رعاياهم، الذين لا يجوز أن يشركوا بهم معهم، بما في ذلك الرحمن الرحيم، وإلا كانت الدبابات والمدافع والطائرات لهم بالمرصاد، وتعرضوا لعنف يحصد أرواحهم كل يوم، دون أن يترك متراً مربعاً واحداً خارج قبضته في طول سوريا وعرضها.
ولا يخوض النظام معركة الدفاع عن المسيحيين، الذين لا يهددهم أي خطر أعظم من حماقة بعض كنائسهم وكهنتهم، التي وصلت إلى حد جعلهم يباركون قتل الأطفال والنساء والشيوخ وينظمون حفلات راقصة احتفالاً به، ويرون فيه حرباً إنقاذية على الإرهاب والتطرف، كأن العنف الرسمي المفتوح ليس إرهاباً وليس تطرفاً، أو كأن انتصار النظام يبرر قبول التضحية بإنسان واحد على يد نظام رفض ما قدم إليه من حلول سياسية كثيرة، واختار طريق العنف والإبادة الجماعية، فأيدته كنيسة تدعي انتماءها إلى يسوع الناصري، عدو العنف الأكبر في التاريخ الإنساني، وابن السلام الذي لقب نفسه مرات كثيرة ابن الشعب وابن الله: الرحمن الرحيم.
أعد يا سيدي، الكنيسة إلى رشدها، وذكرها بأن ما أبقى على المسيحية في المشرق بعد حروب الفرنجة، كان وقوف المسيحيين إلى جانب الحق، ومع أبناء عمومتهم ضد من أرادوا قهرهم، وأن كنيستهم تبدد اليوم رصيدهم التاريخي، وتضعهم أمام مجاهيل من المؤكد أنها ستكون شديدة الخطورة عليهم، إن هم انحازوا إلى نظم زائلة لا تعرف كيف تبقى في الحكم دون مدافع وطائرات ودبابات تدمر مدن وقرى بلادها المطالبة بالحرية والديموقراطية، وبتلك القيم التي صنعت تاريخ العالم الحديث، دون أن تقيم قطيعة بين الدين والإنسان، وبين الكنيسة وبينه.
إن المسيحية المشرقية في خطر عظيم، يا صاحب القداسة، ليس لأنها مهددة بالأصولية الإسلامية، بل لأنها تدار بيد أصولية مسيحية وعقليتها، يمارسها ويتبناها أحبار يقودون بعضها، تضع سياساتهم ومواقفهم اللاإنسانية واللاأخلاقية السكين على عنق يسوع الناصري، لأنها تضعها لأول مرة في التاريخ ضد أبناء عمومتها المظلومين، الذي لا ذنب لهم غير أنهم يحاولون إنقاذ أنفسهم من موت بطيء، مستعينين بالحرية، التي يعتبر فيلسوف من وزن هيغل أن المسيحية هي التي أدخلتها إلى التاريخ، وأنها إنجازها الأعظم والأبقى.
صاحب القداسة
ستكون زيارتك مهمة، بل إنها يمكن أن تمثل تحولاً في تاريخ المسيحية والإسلام، فلا تسهم ولا توافق على هدم الهيكل فوق رؤوس المسيحيين العرب، ومد يدك المباركة لإنقاذهم من حماقات تقترفها كنائسهم وأحبارهم، وإلا جاء يوم ندم ستقولون فيه: لم يصارحنا أحد بالحقائق، وستتساءلون ببراءة : لماذا سكتم على جريمة كان يرتكبها كهنة باسم يسوع الناصري، الذي أراد الهيكل نظيفاً وطاهراً، لكن هؤلاء كانوا يلوثونه بآثام ستتسبب في سفك دماء بشر افتداهم بحياته، بينما كان أحبارهم يسوقونهم إلى الهلاك؟
السفير