بدر حلب
م. محمد عادل فارس
[email protected]
قبل سنة من الآن، وتحديداً في رمضان الفائت، زارني أحد المواطنين الحلبيين، وحدثني
عن الأنشطة المعارضة في حلب، وأن الثوار ينتظرون حراكاً مميزاً باسم "بدر حلب"
تيمناً بغزوة بدر.
كان حراك حلب آنذاك خجولاً جداً، وسواء تفهّمنا أعذار أهل حلب وعذرناهم أم لا، فإن
الحراك بقي، وحتى فترة قريبة، دون المستوى المرجو. ولكن حلب انتفضت انتفاضتها
الكبرى واستقطبت اهتمام العالم كله، وأثبتت أنها "بيضة القبّان"، وأن نهاية النظام،
بإذن الواحد الأحد، ستكون فيها.
وتتوارد إلى الأذهان، من غير تعسف ولا تكلّف، صور متقابلة بين غزوة بدر الكبرى،
ونحن نعيش في ذكراها، وبين مجريات الثورة في حلب، ونحن نتابع شظاياها، ونسمع دوي
انفجاراتها، ونرى أشلاء ضحاياها.
منذ بداية الثورة، بل قبلها بسنين، هناك من كان يَوَدُّ "غير ذات الشوكة"، ويريد
إقناع الآخرين أن حراكاً سلمياً، وعصياناً مدنياً، وحرب "اللاعنف"، وغير ذلك من
المصطلحات، يمكن أن تطيح بنظام بشار أسد. وأصحاب هذه الأحلام، أقصد أصحاب هذه
النظرية، يدعمون أقوالهم بما قرؤوه في الكتب عن ثورات سلمية نجحت في تحقيق أهدافها
بأقل قدر من الخسائر البشرية والمادية والاجتماعية. وكنت أعجز عن تفنيد حججهم، إلا
أنني كنت أقول: هذه الافتراضات قد تنطبق بكاملها أو بنسبة كبيرة منها أو صغيرة، على
أي بلد في العالم، لكنها لا يمكن أن تنطبق على سورية. فإن حروب "اللاعنف" تعتمد على
أن الحاكم المستبد يمكن أن يقتل الآحاد والعشرات والمئات من أبناء شعبه، ويمكن أن
يعتقل المئات والآلاف ويسومهم سوء العذاب... لكن هذا وذاك سيؤدي إلى سخط شعبي عام
لا يمكن للحاكم، مهما طغى، أن يتحمله، وعندئذ إما أن يستجيب لمطالب شعبه فيقوم
بإصلاحات حقيقية ترضي الشعب، وإما أن ينسحب بطريقة ما: يستقيل أو يهرب أو ينتحر...
ولو فرضنا أنه ركب رأسه وأصرّ على المزيد من ارتكاب جرائم القتل والسجن والتعذيب...
فإن أعوانه سينفضّون عنه، لأنهم، مهما أغراهم أو خوفهم، لن يستمروا في قتل شعبهم
وسحقه.
فهل ينطبق هذا على "أسد" وعصابته؟! هل سيقول أسد: عارٌ عليّ أن أستمر في حكم هذا
الشعب وقد ثار عليّ بالآلاف والملايين، وعبّر عن رفضه إياي، وراح يحطم أصنامي ويمزق
صوري ويتفنن في توجيه الإهانة إلي. نعم عليّ أن أستجيب لرغبات هذا الشعب وأن أبحث
عن مخرج آمن!!.
وأفراد عصابة النظام الذي أذاقوا الشعب، منذ أربعين سنة، أو خمسين!. أذاقوه كل
أنواع الويل: كمموا الأفواه، وسرقوا الأموال، وانتهكوا الحرمات والمقدسات، وأذلوا
المواطنين، وارتكبوا كل الموبقات،وبنوا القصور الفارهات، وامتصوا عرق المواطنين، بل
امتصوا دماءهم وامتهنوا كراماتهم... أفراد العصابة هؤلاء هل سيقنعون بأن يعودوا
مواطنين كسائر المواطنين؟! وهل سيتعايشُ معهم أبناء الوطن فيما لو ذهبت السلطة من
أيديهم؟ إن الموت أهون عليهم من ذلك.
ولهذا وذاك انقلبت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة، وكان لا بد لها، من ضمن الظروف
الموضوعية التي انطلقت الثورة فيها، أن تنقلب إلى ثورة مسلحة (وتودّون أن غير
ذات الشوكة تكون لكم. ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق
الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) {سورة الأنفال: 7،8}.
وكما انطلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لإعلاء كلمة الله، أراد الله
لثورة الشام أن تكون لإعلاء كلمة الله، وأراد الله لها أن تطول مدتها حتى تُصقل
النفوس وتزكّى، وتتوارى الأوهام والشعارات الزائفة، وتتحطم الأصنام في القلوب
بموازاة تحطمها في الساحات، وتخلُص القلوب لله.
صحيح إنه منذ بداية الثورة لم يكن يحرك نفوسَ الشعب شيء كما يحركه الإيمان وحب
الشهادة في سبيل الله، لكن الصحيح أيضاً أن كثيراً من الثوار تحركهم إلى جانب ذلك
دوافع شتى... تجمعهم الثورة على النظام والمطالبة بإسقاطه، ثم تفرقهم أسباب هذه
الثورة. كما يظهر في سلوكهم كثير من التباين... وبامتداد الأسابيع والشهور صارت
النيات تصفو، وصارت القلوب تجتمع على "الله"، وتأكدت الجماهير أن المدد والنصر
والعون... لا تأتي إلا من الله، وأن الاستعانة يجب أن تكون به وحده، وأن الراية
التي يجب أن ترفع هي رايته سبحانه.
وفي هذا وذاك شهدت الساحة السورية في كل مدينة وبلدة وقرية، صوراً من البطولات
والتضحيات والإيثار والحب والتعاون والفداء... وهو ما لم يكن ليحدث لولا أن القلوب
قد توجهت إلى الله وحده.
لقد نصر الله جنوده في بدر وهم أذلة في العَدَد والعُدَد، وبشائر النصر لعباده في
سورية تطمئن القلوب بأن الله ناصر جنده المجاهدين.
وأتذكر هنا موقفاً من "الحديبية" وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يركب ناقته "القصواء"،
فبركت الناقة، فزجرها الناس لتقوم، فلم تقُمْ، فقالوا: خلأت القصواء، أي حَرَنَتْ
وامتنعت عن المسير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت وما ذاك لها
بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل"...
ولقد قال الناس عن حلب ما قالوا، وهم معذورون إن شاء: قعدت حلب، جبُنت حلب. ونقول:
ما جبُنت ولكن حبسها حابس الفيل. شاء الله أن تمر ظروف قاسية منعتها من الثورة على
المستوى المأمول منها، لكن انطلقت وثارت وحطمت الأغلال، ولسوف تحطم الظلم والظلام
وتسقط الطاغوت وترفع راية الإيمان والحب (وما النصر إلا من عند الله. إن الله
عزيز حكيم) {سورة الأنفال: 10}.