في لبنان... انكشف المستور
في لبنان... انكشف المستور!
حسن قاطرجي
انفجر فجأة الوضع العسكري والأمني في لبنان ابتداءً من بيروت وتسارعتْ الأحداث بتسلسل مذهل في الأسبوع الثاني من شهر مايو (أيار) 2008، وتَدَحْرَجَتْ كُرة النار على الجميع فأصابت بلَهَبها الكبار والصغار، العجائز والأطفال، الأبرياء والمجرمين، الأحزاب والتيارات من مختلف الاتجاهات في مناطق متعددة.
ولقد سقط في أقل من أسبوع حوالي 100 قتيل و300 جريح وارتُكبت مجازر ومورست أعمال وحشية ينَدى لها الجبين وتخجل منها الإنسانية ويتبرأ منها الدين وتقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس وتكشف عما تُخفيه المظاهر الخادعة للذين يُطلّون على شاشات التلفزة بالبدلات الأنيقة والوجوه الناعمة من نفوس سقيمة وقلوب ملآى بالأحقاد وحبِّ الانتقام والتشفي برؤية الدماء تسيل ذكّرنا ذلك بأعمال قبائل الجاهلية... أستغفر الله: لم تكن بهذه الوحشية بل كانت كما قال الشاعر:
إذا احتربَتْ يوماً ففاضَتْ دماؤها تذكّرتِ القُربى ففاضَتْ دموعُها
ظهر ذلك من الطرفين المتصارعين في مجزرة جنازة أرض جلول، وفي مجزرة حلبا في عكار وفي مجازر الجبل. وكان من تلك المجازر مجزرة إطلاق النار على سيارة أحد الحقوقيين اللامعين من الشباب المسلم الواعد أخينا الحبيب الداعية المحامي الدكتور هيثم طبارة التي كان يستقلها ووالدته فأُرديا قتيلين لا ذنب لهما إلا كونهما همّا بمغادرة مكان سكنهما في رأس النبع ليسلما من معارك عبثية فهجم عليهما قَدَرُهما. تقبلهما الله من الشهداء وجعلهما من أهل الجنة وأنزل على روحَيْهما السكينة والرحمة.
لماذا الذي حصل؟
على السطح: تبدو الأسباب المعلومة التي يعرفها الجميع وتناوَلَتْها وسائل الإعلام فتفجَّرتْ معارك الشوارع بين قوى المعارضة في لبنان التي يغلب عليها الانتماء الشيعي وتتمترس وراء مشروع (المقاومة) وبين قُوى الموالاة التي تشارك فيها طوائف متعدّدة يتقدمها (تيار المستقبل)، حيث أقدمت الحكومة اللبنانية على اتخاذ قرارين في جلسة امتدت 11 ساعة مساء الاثنين في 5/5/2008 غير مدروسَيْن ومستفِزَّيْن للفريق الخصم، ردّ عليهما هذا الفريق بأعمال حربية غير أخلاقية ـ فضلاً عن أن تكون شرعية ـ وكان يمكن أن يكون الرد بطرق وآليات سياسية سلمية مختلفة. وظهرت في المقابل ردات فعل: منها ما كان من قبيل الدفاع عن النفس ومنها غير الأخلاقي والثأري الذي لا يُقرّه دين ولا يتقبله خُلُق.
أما في الأعماق: فالأسباب كامنة في صراع السلطة والنفوذ بين الفريقين وارتهان كل منهما لأجندة سياسية لها بُعد إقليمي ودَوْلي مرتبط بأوضاع المنطقة وذو علاقة مباشرة بتوظيف القُوى الدَّوْلية حَرَاكَها السياسي وعلاقَتَها بالأنظمة والقوى السياسية المحلية لحماية دولة اليهود ومخططاتها بزعزعة استقرار الدول المحيطة بها وإغراقها في أتون الفتن والانهيارات الاقتصادية والمعيشية والاضطرابات السياسية والأمنية.
والمشكلة العويصة والخطيرة تكمن في تذرُّع فريق المعارضة بمطلب (حماية المقاومة) والاستقواء بالإنجازات العسكرية التي استفرد بها هذا الفريق على مدى (25) سنة في ظل تغييب مقصود ومتعمَّد من قِبَل النظام الأمني السابق في لبنان لقُوى الجهاد السنية عن المشاركة في قتال اليهود!
وفي المقابل يتذرع الفريق الآخر بمنطق (حماية الدولة) متلطّياً وراء الغرائز المذهبية مِثْلُه مثل فريق المعارضة!!
انكشاف المستور
ولاشك أن خمسة أيام من القتال كشفت الحقائق المستورة التالية:
· خيانة ودجل وكذب الطبقة السياسية في لبنان من كل الأطياف: ظهر ذلك في قلب الحقائق وتزوير الوقائع واستغلال الغرائز والتلاعب بالأرقام والمشاهَد والصوَر من وسائل إعلام كلا الطرفين.
· استغلال الدين والمذاهب من أجل السياسة بدلاً من (توظيف السياسة لصالح الإسلام وتأمين مصالح الإنسان) لو كانوا صادقين.
· سطحية عدد من الشيوخ من أهل السنَّة بعضهم عن حسن نية لكن بقلة وعي وآخرون عن تعلّق بالدنيا ساهموا بطريقة أو أخرى في تأجيج اشتعال نارمعركة ليس للإسلام أي مصلحة في خوضها بل لا يجيزها بل يجرِّمها لأنها أولاً لغير وجه الله، وثانياً لا تهدف إلى إعلاء كلمة الله وإنما إلى أهداف علمانية ومصالح سياسية يسوِّق لها الإعلام العاهر، وثالثاً: لأن أصحابها لا يدعون بدعوة الله ورسوله وإنما بمفاهيم علمانية.
· سرعة انهيار الكثرة الفارغة التي ظنها الناس أنها تمنحهم القوة ففوجئوا أنها هزيلة إلى حد أنها لم تصمد 24 ساعة في مواجهة العدوان الهمجي المنظم جداً ولم تحفظ لهم حتى أمنهم وكرامتهم ولا وفّرت لهم قوتَ يومهم.
· تفاهة الزعامات وخفّتها فلقد بان لكثير من الناس في هذه الحرب العبثية زيف هذه الزعامات وزيف عنترياتها وأنه ليس لها أيّ (ثِقَل) لا في الفكر السياسي ولا في القيمة الدينية.
· انعدام الأخلاق على الرغم من كثرة الجعجعة في وسائل الإعلام وفي أدبيات مختلف الأفرقاء السياسيين عن حقوق الإنسان وعن الديمقرطية في لبنان وتميُّز لبنان عن محيطه العربي وما يجعجعون به عن فرادة نظامه السياسي ومناخ الحرية فيه وتعدّد الأحزاب!! وإذ بالمواطن يرمي بكل ذلك في سلّة المهمَلات ويلعن الأحزاب وتعدّدها ويَتُفّ على هذا المناخ وعفن هذا النظام وأكذوبة الديمقراطية لأن ذلك كلّه لم يحفظ له كرامته عند الاحتراب السياسي والعسكري ولم يُشعره بالأمان.
إلامَ ندعو المسلمين؟
بعد كل ما تقدم فإن دعوتنا لأهل العلم والدعاة والمثقفين من الواعين المخلصين الأحرار خاصة، ولسائر المسلمين عامة : أننا نطالبهم بـ(وقفة مراجعة) و(جردة حساب) و(محاسبة جادة) من أجل نهضة واعية: ترتكز على صدق الولاء لله عز وجل ولا تتخذ إلا زعامة من يسلك سبيل رسول الله r لئلا نَعَضَّ على أصابعنا ندماً وحسرة يوم القيامة يومَ )يعضُّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا(، وأن يتصف برؤية واعية وحكمة سياسية ومعرفة دقيقة بالواقع ويتصف بمؤهلات قيادية حقيقية ليست مصطنعة ولا شكلية، وتطرح مشروعاً على مستويين:
1. مستوى يراعي واقع المسلمين الحالي في لبنان ويَنْشُد إصلاحه وترميمه ويطالب بالعدل والإنصاف، كما يَنْشُد تحديث المؤسسة الدينية وتفعيل رسالتها واعتماد الكفاية في التدين والعلم والإدارة لا المحسوبية، ويتقدم بالمسلمين في مواقعهم الاجتماعية وقوّتهم التجارية ومع شبابهم خاصة باختصاصاتهم العلمية، ويعمل على تربية جيل واعٍ ملتزم بدينه مرتبط بقرآنه جادّ في حياته مُجِدّ في بناء مَجْد أمته.
2. ومستوى بعيد يراعي العمل لتحقيق هدف الإسلام الكبير من بناء أمة تُعز دينها وتعلي كلمة ربها وتطبق شريعة كتابها وتوحِّد بلدانها وتَقََْلَع ـ بقوة الإيمان وبقوة العلم والمال وقوة الجهاد في سبيل الله فقط ـ دولةَ اليهود الغاصبة من قلب وطنها. وما ذلك على الله بعزيز. والله من وراء القصد.