بؤسُ العالم
بسام الهلسه
لم يسبق للبشرية أن مرت –سوى لفترات محدودة- بمثل الوضع الحالي: الوضوح الساطع للعدوان وللاستغلال والقهر وكافة صنوف الظلم من جهة، والغياب شبه التام لبديل الخلاص من جهة أخرى.
ليس على الصعيد الخاص بكل أمة، أو جماعة، أو فئة، أو طبقة، أو عرق، أو حتى قارة مضطهدة، بل على المستوى العالمي.
في مدى التاريخ، المعلوم لدينا، كان يظهر بين حين وآخر فرد أو جماعة أو طبقة أو أُمة تستشعر الخلل القائم، فتقدم رؤيتها لما تراه خلاصاً للعالم البائس. والعودة لدفاتر الماضي المطوية، تخبرنا عن هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لانقاذ البشر ككل: رسلاً، وأنبياء، ومصلحين وأخلاقيين واجتماعيين، وحكماء، وفلاسفة، ومثقفين، وعلماء...
أما الآن، ومنذ هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وتعميم الرأسمالية كنظام اقتصادي وحيد جرى تعميده باسم "العولمة"، فإن الحالة تبدو مقفرة، لا نكاد نرى فيها سوى المحاولات والجهود الجزئية على مستوى الأمم والجماعات المتفرقة، والتي يتوجه نقدها اما لجانب من جوانب الخلل وإنعكاسه الضار عليها، أو أنها تبحث لنفسها عن مكان في إطار الوضع القائم دونما محاولة لتجاوزه وتخطيه.
* * *
ومع الاعتراف بالمنجزات الكبيرة علمياً، وتقنياً، واقتصادياً، ومدنياً، للرأسمالية، إلا أن طبيعتها البنيوية بالذات، القائمة على الأنانية والاستغلال، حدَّت من أفقها ومنعتها من تقديم نفسها كمخلص للبشر كما ادعت أدبياتها وشعاراتها ودعاتها.
وبيَّنت تجربتها التاريخية، ان المحرك الرئيس لها هو المصلحة الفردية، والقوة، التي لا تحفل في سبيل تحقيقهما بأية قيم. فإذا كانت قد بنت نظاماً طبقياً في بلدانها الأم، يجعل من الاستغلال والكسب المادي إلهاً معبوداً، ومن السوق، وأيديها الظاهرة والخفية، شريعتها ودينها، فإنها قد جعلت الاستعمار والإمبريالية، ذراعها الضاربة في الخارج.
ولم تتورع عن بعث نظم قديمة تجاوزها التطور البشري، فأحيت "العبودية" في أميركا رغم أنها البلد الوحيد الذي انطلق من قاعدة تطور رأسمالية.
أنانيتها قادتها، أيضاً وفي الوقت نفسه، وبشكل محتوم، إلى خوض صراع ضار فيما بينها لاقتسام وإعادة اقتسام العالم، للسيطرة على مواده وموارده وأسواقه.. صراع بلغ ذروته في مذبحتين عالميتين (الحرب العالمية الأولى والثانية). وما كان إنشاؤها ل"عصبة الأمم" ثم "الأمم المتحدة" سوى تغطية للتحكم في العالم ومصايره.
* * *
بعد انهيار "الإتحاد السوفيتي" و "دول المنظومة الاشتراكية" كشفت الولايات المتحدة، مجدداً عن وجهها الإمبريالي القبيح الذي عملت طويلاً على إخفائه وتجميله، فإذا بها لا تكتفي بالوسائل الاستعمارية الحديثة، بل تعيد إطلاق التقاليد الاستعمارية القديمة القائمة على الغزو والاحتلال المباشر، وتدمير هياكل وثقافات البلدان المستهدفة، والسعي لفرض الهيمنة الاميركية بالقوة على الآخرين، مما وضع العالم بأسره في حالة فوضى ورعب دائمين، ضاعف الشعور بهما، غياب البديل الإنساني الذي يقترح أُفقاً آخر للبشرية القلقة المعذبة.
* * *
والبديل ليس وصفة تأملية يقدمها هذا الحكيم أو الفيلسوف أو ذاك، كما فعل "افلاطون" في "جمهوريته" أو الفارابي في "آراء أهل المدينة الفاضلة" أو توماس مور في "يوتوبيا", ولا هو الاكتفاء ب"الخلاص الروحي" كما يقول المبشرون، ولا في اتباع نظام أخلاقي قويم، كما نادى المصلحون، ولا في تغيير البنيان الاقتصادي والسياسي, فقط، كما دعا آخرون، بل هو في هذا كله: بديل شامل للجميع ينطلق من الواقع القائم، ويتجاوزه في آن واحد معاً. بديل يكون إنقاذ الإنسانية, والكون المهدد مثلها بالخراب، منطلقه وأداته وغايته. ويستجيب للاحتياجات الإنسانية المتعددة: الروحية والعقلية والأخلاقية، والحياتية والبيئية.
* * *
من دون هذا البديل الذي يجتذب العناصر والقوى الحية المتألمة في العالم إلى ندائه، ستظل سائر المحاولات –مع ضرورتها وأهميتها- جهوداً متناثرة، تفصيلية، قد تصلح جزءاً من الخراب القائم، لكنها لن تنهيه.. وقد يُعاد تجديده.
والتجارب الإنسانية الحالية والسابقة، تذكرنا بما سبق لمفكرين وفلاسفة تاريخ أن لاحظوه: ان التاريخ لا يسير في خط صاعد متقدم على الدوام، بل يشهد انحرافات، والتواءات، وردات إنحطاطية..
وتطور البشرية, العلمي والمعرفي والتقني، لا يتلازم بالضرورة مع تطورها الروحي والأخلاقي في تكامل وتناغم، بل يرافقه –كما لوحظ من قبل- تردٍ وتقهقر. وقد تعود البشرية إلى عهود التوحش حيث "حرب الجميع ضد الجميع" كما سبق وان قال "توماس هوبس".
فتحويل العالم إلى "سوق" يعني تشييء البشر، والقيم، والعلاقات، وتحويلهم إلى "سلع" معروضة للتبادل حسب شريعة العرض والطلب. ولا يقبل إنسان ذو ضمير حي، حر، منصف –عدا عن المستضعفين الذين يستلبهم هذا الوضع- بهذه النخاسة المعاصرة، التي جعلت الكرة الأرضية مكاناً للعذاب.
* * *
إذا كان "المستضعفون في الأرض" هم المعنيُّون أولاً بتغيير الوضع العالمي، فهذا لا يعني أنهم سيفعلون ذلك لمجرد كونهم مستضعفين. فبصفتهم هذه، ليسوا أكثر من "امكانية" قابلة للاحتمالات. أما تحولهم من "امكانية" إلى "واقع", فهو مشروط بمدى "وعيهم" لبؤسهم ولبؤس العالم، ومشروط بمدى عملهم الجاد على دفع هذا البؤس وتغييره.
ولسوف يسرع كثيراً إنجاز هذه المهمة المطلوبة بالحاح، والشاقة والطويلة الأمد، امتلاكهم لرؤية إنسانية بديلة شاملة لخلاص العالم، ولتصويب مساره ومصيره الكارثي.