القرصنة تنقلب على أصحابها
ابتهال قدور
أما أسطول الحرية المظفر فقد أدى مهمة إعلامية وإنسانية وسياسية فائقة النجاح..
وأما النشطاء المشاركون المناضلون فقد خاض كل منهم تجربة إنسانية منقطعة النظير، لن تزيده إلاّ إدراكاً ووعياً...
وأما الذين سلّموا أرواحهم فقد خطت دماؤهم الزكية ملحمة جهادية تستحي من وصفها الكلمات، ونسأل الله العظيم أن يكونوا أحياء عند ربهم يرزقون...
وأما الكيان الصهيوني المحتل، فهو في ورطة، وارتباك، وتناقض، وعجز عن دفاع مقنع يرد به ما اقترفت يداه من إجرام...
يُنَقب في أوعية النفاق والدجل عن مزيد من الأكاذيب المستوحاة من مسرح لطالما مثل فيه دور الضحيّة، ويستحضر بعض دموع تماسيحية الطبيعة لطالما أخفى بها واقعه الإرهابي الإجرامي..
إلاّ أن هذا الخداع لا يبدو أنه سيكون كبير نفع في هذه المرة!!
هذه المرة نسمع من الغرب أصواتاً عالية النبرة، متسارعة الوتيرة، تُجري بوعي مقارنة موضوعية تضع هذا الكيان الدخيل، على درجة متساوية مع كيان الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا!!
ونسمع من يدعو المحتلين إلى ضرورة شعورهم بالخجل من انتمائهم لدولة تمارس الإرهاب المنظم!
و نسمع أن هناك من أبصر أخيراً وجود تحيز دولي واضح تجاه الكيان الإسرائيلي!
ونسمع تساؤلات عن مخاطر وجود دولة فوق القانون!
كل هذه الأصوات بدأت تظهر على الرغم من كل الظلال والسُتُر التي يسدلها إعلام الغرب على فضائح الصهاينة!
لكن ومن رحمة الله بنا، أن صار هذا العالم قرية صغيرة، فكل إخفاء للحقائق، وكل تأجيل للقضايا، وكل تجاهل، وكل غض طرف، وكل تهميش لم يعد يجدي نفعاً، ولا عاد يخفي حقيقة، ولا عاد يستر عورة...فحمداً لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم...لكي يعود العلم بالنفع عليه بداية وانتهاءاً.
سعداء نحن بهذا الإنجاز، وإن كان عكر صفو سعادتنا أنفس طاهرة فقدناها، ولكننا قلقون في نفس الوقت، مصدر هذا القلق خبراتنا السابقة في سلوك أرعن كثيراً ما سلكناه ضيع علينا جني ثمار التضحيات الغالية وفوت علينا انتزاع المكاسب، وميع المواقف، وفتر العزائم، وأشاع اليأس والقنوط ..
هذا بالإضافة إلى سلوكيات عاطفية خاطئة يقوم بها البعض منا تحت تأثير زهوة النصر ونشوته، وأشير هنا إلى بعض التصريحات وبعض الهتافات التي تعود إلى حصر القضية في جزئية تاريخية معينة تتناقض مع شمولية الحملة، وتوقعنا في مطب قد يؤخذ علينا..
وهاهي هذه الثلة من الأحرار قد أدت ما عليها بوعي وإدراك، وبكثير من المسؤولية...وسلمتنا الحدث، على طبق من حرير، علنا نتعامل معه تعاملاً يليق بالأحداث الجسام...
نحن مطالبون اليوم أن نرتقي إلى مستوى الحدث الذي يقدمه لنا أحرار هذا العالم، ومطالبون بأن نبدي الكثير من المسؤولية وحسن التصرف تجاه هذه الأفعال الإنسانية ومطالبون بكثير من التعقل والإبداع في إدارة الأزمة، وبكثير من الوعي بمعطياتها، هذا لكي نتمكن من تحقيق مكاسب متناغمة في حجمها مع حجم التضحيات.
أما إن تكررت نفس الأخطاء في تفويت الفرص، وتمييع الجهود، وامتصاص الغضب الجماهيري بوعود وعهود لا يرى سوى حبرها، فهذا سيكون من الأمور المحزنة والمؤلمة حقا.
مهم إبراز أمرين نقرأهما بوضوح ونحن نتابع مجريات أحداث أسطول الحرية المظفر...
الأمر الأول هو تلك النقلة النوعية المتمثلة في التحول من "ردة الفعل" إلى "صناعة الفعل"... ومن التلقي اللافاعل إلى المبادرة الفاعلة.
وهي نقلة بالغة الأثر في الحراك الحضاري، لعلها تكون في حالتنا بداية الخروج من النفق المظلم وبداية التحول إلى التخطيط المبصر الذي سيجعلنا نعمل بذكاء في إطار ما هو متاح من القوانين الدولية، ويجعلنا قادرين على إرباك العدو وتحويله إلى خاسر بطريقة لا تعزلنا، عن المجتمع الدولي، ولا تضعنا في قفص الاتهام المعيق لتحركاتنا وفاعليتنا.
وربما لن نجانب الصواب إذا ما أرجعنا هذه النقلة، في جانب كبير منها للتنوع الثقافي لأبطال حملة كسر الحصار، فانضمام مشاركين من اثنتين وثلاثين دولة من مختلف قارات الأرض إلى هذا النشاط البطولي، ساهم في حسن التدبير، وإتقان التخطيط، ودقة رسم الأهداف، وهكذا لنتأكد بأن المشاريع الأكثر نجاحاً هي تلك الأكثر تنوعاً وثراءاً بعنصرها الإنساني.
وفي نفس الوقت ساهم تنويع المشاركين في توزع أثر العدوان ليشمل كل الدول التي شارك أبناؤها في الحملة، وجعل من كل مشارك رسولاً في بلده لقضية عادلة، وشاهد عيان على العدوان.
فليس المتضررون اليوم هم من أبناء العرب والمسلمين فقط، لكنهم من مختلف الأديان والأجناس والأعراق، وباتساع دائرة المتضررين تتسع دائرة الغضب. فالتنوع منح الأسطول زخماً غير معهود، زخم يجعلنا أشد انتباها إلى أهمية هذا العامل في التخطيط المستقبلي.
ونأتي إلى الأمر الثاني الذي يبعث الأمل في النفوس، على الرغم من كل الدماء الحبيبة الزكية التي فقدت، وبالإضافة إلى كل الأبعاد التي بلغها الأسطول الشامخ، نركز على بعد لا يقل أهمية ألا وهو البعد المستقبلي..
تأملوا وجوه الفئة المتظاهرة، في مختلف البلدان، ستجدون بأن معظمها وجوه فتية شابة، فليس شبابنا إذاً في معزل عن قضايا أمته، ولم تفلح كل تلك الهجمات الثقافية في فك ارتباطه بتلك القضايا، ولم تنجح عمليات التشويه والتلويث الأخلاقي في أن تجرفه إلى تيارها، ولم تفلح في تحويله إلى كيان ممسوخ بلا نبض ولا غايات، وفي الخصوصية التركية نلاحظ الدليل العملي على فشل التربية العلمانية في أن تفصل أبناء الأمة التركية عن دينها وأصولها ومقدساتها...فها هو جيل العلمانية يدرك امتداداته التاريخية والحضارية..
وهذا أمر يؤكد لنا الروح التجديدية التي يبثها الإسلام العظيم في نفوس أبناءه، ويثبت قناعتنا بخروج حتمي من المأزق الحضاري الذي نعيشه، ويجعلنا نطمئن إلى أن حالتنا ليست سوى حالة مرضية عارضة، ستتعافى منها الأمة في القريب العاجل بإذنه تعالى...
يبدو أن الكثير من القناعات التي سادت على مستوى العالم ستلتقفها أمواج أحدثتها سفن الحرية، وتهوي بها إلى الظلمات، لأنها قناعات فقدت قيمتها وأصبحت من الزبد الذي لابد له أن يختفي..
والفطن من سيعمل بجد لكي يزرع محل هذه القناعات التي انتهت صلاحيتها، قناعات أخرى تقود شعوب العالم إلى التحرر من هذا الظلم والتحيز، وتقود الشعوب العربية والإسلامية إلى مزيد من التخطيط المتعقل، والإعداد الحكيم، والعمل الفاعل المؤثر.
هذا لكي لا تضيع تضحيات أبطال الأسطول، كما ضاعت تضحيات قبلها...