الفوضى في الحقّ لا تهزم الباطل المنظّم
صبحي غندور*
عام 1897، قال تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية، مخاطباً أعضاء المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في سويسرا، "إنّكم بعد خمسين عاماً ستشهدون ولادة دولة إسرائيل".
وكان كلام هرتزل سبباً لاستهزاء بعض أعضاء المؤتمر، لأنّ المسافة الزمنية التي تحدّث عنها لم تكن بنظر هذا البعض كافيةً لإحداث تغييراتٍ في العالم وفي أرض فلسطين لتظهر، كحصيلة لهذه المتغيرات، دولة إسرائيل.
وبالفعل، فقد شهدت نهاية العقد الرابع من القرن العشرين إعلان دولة إسرائيل وبدء مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة العربية، وانتقالاً نوعياً في عمل الحركة الصهيونية بحيث أصبح للمنظمة الصهيونية العالمية دولة اعترفت بها الأمم المتحدة ولكن ليس لهذه الدولة خارطة تبين حدودها الدولية النهائية.
وفي أواسط الخمسينات تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل السابق) مع وزير خارجيتها آنذاك موسى شاريت، عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها للهيمنة على لبنان والشرق العربي كلّ ه. وكان الحل في خلاصة أفكار هذه الرسائل: البحث عن ضابط مسيحي في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل ثمّ يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتل المناطق الضرورية وتقوم دولة مسيحية متحالفة مع إسرائيل.
وهذا المشروع الإسرائيلي رأى النور عام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء "دولة لبنان الحر" في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
وفي شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -كيفونيم " التي تصدر في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الإستراتيجية) تحت عنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات" وجاء فيها: "إنّ العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكوّن كلّها من مجموعاتٍ عرقية مختلفة ومن أقلّياتٍ يسودها العداء لبعضها (...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزّق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي".
ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
وهذا المشروع الإستراتيجي لإسرائيل في ثمانينات القرن العشرين، والذي يتصل مع خطتها السابقة في عقد الخمسينات، جرى بدء تنفيذه أيضاً من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982 ثمّ إشعال الصراعات الطائفية خلال فترة الاحتلال وفي أكثر من منطقة لبنانية.
وفي 11 آب/أغسطس 1982، أي خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال رئيس حزب العمل الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز ما نصّه الحرفي: "إنّنا لا نريد وتحت أية ظروف أن نتحوّل إلى شرطي في لبنان، ولكن الحل الأقرب للتحقيق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسيمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى أي إلى نظام متصرفية جبل لبنان".
وفي عام 1982 أيضاً أعلن أرييل شارون أنّ نظرية "الأمن الإسرائيلي" تصل إلى حدود إيران وباكستان!
***
هذا العرض المختصر للمخطط الصهيوني في المنطقة العربية يعني أنّه مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الحكومات الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأشخاصها، فإنّ تنفيذ المخطط يبقى مستمراً حتى يحقّق أهدافه الكاملة.
فلا ترتبط الإستراتيجيات والخطط الإسرائيلية بحزبٍ معين في إسرائيل ولا بشخصٍ محدد، بل هناك مؤسسات وأجهزة وأدوات تتابع التنفيذ منذ مؤتمر "بال" في سويسرا عام 1897 مروراً بتأسيس دولة إسرائيل ثم حروبها على دول المنطقة.
وما يقوله الزعماء الصهاينة عن مخططاتهم (كما فعل هرتزل) لا يعني التنبؤ أو التنجيم الفلكي، بل هو ممارسة (الأسلوب العلمي) في الصراع حيث هناك دائماً (حركة يومية) و(خطط عملية) لتنفيذ (إستراتيجية) تخدم (الغاية النهائية) الموضوعة سلفاً. فكلّ خطّة في أي صراع عليها مراعاة عنصريْ (الإمكانات المتاحة) و(الظروف المحيطة) لاستخدامهما واستغلالهما لصالح المخطط المنشود تحقيقه.
وما سبق عرضه عن المخططات الصهيونية، لا يعني أننا – كعرب- ننفّذ ما يريد الصهاينة أو أنّنا جميعاً أدوات وعملاء لإسرائيل! بل الواقع هو أنّنا ضحيّة غياب التخطيط العربي الشامل مقابل وجود المخططات الصهيونية والأجنبية الشاملة. فنكون دائماً "ردّة فعل" على "الفعل" الإسرائيلي أو الأجنبي الذي يتوقّع سلفاً (بحكم التخطيط العلمي) ماهية ردود أفعالنا قبل أن تقع لتوظيفها في إطار أهدافه.
وإذا كان التساؤل مشروعاً عن مسؤولية بعض الأنظمة العربية تجاه ما حدث ويحدث من نجاحِ للمخطط الصهيوني، فإنّ السؤال الخطير هو: كيف يجوز لشعوب الأوطان العربية أن تكون مسهِّلاً لتنفيذ هذه المشاريع الصهيونية؟
فاستعراض صورة الواقع العربي الراهن تؤدي إلى نتيجةٍ سلبية للأسف، بسبب الشرخ الخطير داخل الشعب الواحد في أكثر من بلدٍ عربي.
وهناك طروحات وممارسات طائفية أو مذهبية أو عرقية تسود عدّة بلدان عربية بشكلٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي الحديث.
أيضاً، هناك تركيز إعلامي وسياسي على تفسير وربط ما يحدث في المنطقة بأمور طائفية أو مذهبية ثمّ توزيع المناطق والأحزاب والحركات السياسية على قوالب طائفية ومذهبية.
إنّ المغامرة التي يقودها البعض في عدة بلدان عربية من أجل تحويل الطوائف والمذاهب والأقليات العرقية إلى كياناتٍ سياسية منعزلة لن يكون مصيرها إلا إضعاف الطائفة أو الأقلية العرقية نفسها... وشواهد التاريخ المعاصر في لبنان أفضل مثال على ذلك. قد يكسب آنياً أشخاص وعملاء، لكن الثمن سيكون باهظاً جداً على حساب الشعب كله والطوائف كلها والمذاهب كلها. فلا قدرة ولا إمكانية للحياة لأيّة دويلة ستقوم على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي.
وعندما يتفجّر الصراع الطائفي والعرقي، تتوقف فوراً الصراعات الاجتماعية، بحيث يتقاتل الفقراء مع بعضهم البعض على أساس انقسامهم الديني أو العرقي.. وتتوقف أيضاً المعارك التحرّرية والوطنية، لأنّ العدو سيكون في الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر... فالدرس الذي تعلمه الأعداء جيداً، هو أن التقسيم الجغرافي والسياسي، قد يقيم الحواجز والحدود بين الدول، لكنه لا يمنع وحدة الشعوب، بينما التقسيم الديني والعرقي يقيم حدوداً مرسومة بالدم الأحمر لا بالحبر الأزرق!.
إنّ مسؤولية التصدّي لهذه المشاريع تبدأ عند كلّ فرد عربي بـأن يعيَ ما يخطَّط لمستقبله وضدّه، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه. وهي مسؤولية أتباع كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدركوا أين تقف حدود هذه الانتماءات وأين تبدأ حدود الأوطان، فلا نرد على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه...
والمسؤولية تشمل أيضاً الحكومات والمنظمات التي استباحت لنفسها استخدام الاختلافات الدينية أو العرقية في صراعها مع بعضها البعض أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنية لها.
إنّ المعرفة الأفضل لكلٍّ من الدين والعروبة، والعرض السليم لهما من قبل المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، سيساهم بلا شك في معالجة الانقسامات الطائفية والعرقية في المنطقة العربية.
كذلك، فإنّ البناء الدستوري السليم الذي يحقق العدالة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد ويضمن الحريات العامة للأفراد والجماعات، هو السياج الأنجع لوحدة أي مجتمع.
الملفت للانتباه هنا، أنّ تاريخ نشأة المنظمة الصهيونية، كان متزامناً مع ظاهرة الكفاءات العربية والإسلامية آنذاك التي كانت مضطرّة إلى العيش خارج أوطانها وتطمح إلى نهضة عربية وإسلامية جديدة (مثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في فرنسا، والرابطة القلمية في أميركا الشمالية.. الخ).
لكن الفارق بين الطرفين أنّ صاحب دعوة الحق (النهضة) اعتمد فقط على أحقّية دعوته بينما كان الطرف الآخر (رغم بطلان دعوته وعدم أحقيتها في اغتصاب وطن شعب آخر) أكثر تنظيماً وأفضل تخطيطاً لمراحل التغيير المطلوب على الأرض، إضافة طبعاً إلى توفّر ظروف دعم ومساندة ضخمة من قوى عالمية كبيرة.
نحن العرب المعنيون الأُول، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بكل ما تخطط له وتفعله المنظمة الصهيونية العالمية، حتى لو سيطر علينا السأم والملل من تكرار هذا الكلام.
نحن العرب لا نحتاج إلى إدراك مخاطر ما تفعله المنظمة الصهيونية والقوى الكبرى الطامعة بأرضنا وثرواتنا، حتى نتحرك وننهض ونصحح أوضاعنا السيئة في أكثر من مجال لا علاقة له بالوجود الصهيوني أو التآمر الأجنبي!.. لكن نحن العرب نحتاج إلى الأخذ بالأسلوب العلمي في عملية النهوض والتصحيح، تماماً كما أخذت به المنظمة الصهيونية ـ ولم تخترعه ـ يوم تأسّست وخطّطت ثم نفّذت.