المقاومة والحق في الحياة
المقاومة والحق في الحياة
فيوليت داغر
شكل نجاح حركة المقاومة الإسلامية في الانتخابات الماضية في فلسطين منعطفاً جديداً وسابقة في القانون الدولي، كما في سقف وحدود الشرعية في النضال الوطني الفلسطيني. فمن جهة، نصت اتفاقيات أوسلو والقرارات والقوانين المتعلقة بالانتخابات التشريعية على ضرورة مشاركة كل الأطراف الفلسطينية في عملية السلام ومؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية. ومن جهة ثانية، تعهدت الدول المانحة، وبشكل خاص الاتحاد الأوروبي، باحترام الاختيار الفلسطيني الحر لممثلي الشعب.
لكن الحرب على الإرهاب جاءت لتعزز الحرب الغربية على أي مقاومة مسلحة للاحتلال. فنجحت مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل في استصدار قرار (من البرلمان الأوروبي) من أكثر القرارات الأوروبية عداء للقضية الفلسطينية. قرار يصنف فصائل أساسية على لائحة الإرهاب، كما يطالب السلطة الفلسطينية بمحاربتها كشرط لاستمرار ما يسمى عملية السلام. ولكي تكتمل حلقة المحاصرة لفصائل المقاومة، تعهدت المفوضية الأوروبية في اجتماع سري لها (في منتصف ديسمبر/كانون الأول ومباشرة قبل الانتخابات الفلسطينية) بوقف المساعدات عن الجانب الفلسطيني في حال نجحت حركة حماس في الانتخابات.
لكي يكتمل نصاب الاعتداء على السيادة الفلسطينية وعلى حق هذا الشعب في اختيار ممثليه، مارس الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سياسة عزل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي على حكومة حماس الأولى. ثم عاد وفرض ضغوطاً جمة، مع تأييد حصار لا سابق له، بعد الصراع الفلسطيني/الفلسطيني وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة.
معظم الحكومات الأوروبية تدعم هذه السياسة الأميركية المعادية لنهج المقاومة، سواء ارتبط عند الأطراف السياسية الفلسطينية بهدنة مؤقتة أو طويلة الأمد، أو كان برنامجاً سياسياً يجمع بين مختلف أشكال النضال العسكري والسلمي من أجل الاستقلال.
وإزاء هذا الوضع، هناك أسئلة تطرح نفسها بقوة: هل يحق لأي شعب تحت الاحتلال مقاومة المحتل بكل الوسائل المتاحة بما فيها المسلحة؟ ما هو المباح والمحظور في النضال المسلح؟ وهل يحول هذا النضال دون تقدم "مباحثات السلام"؟ بل هل توجد حالة دولية واحدة لنزع السلاح قبل إنجاز البرنامج السياسي لحركة التحرير الوطني؟
يلخص أحد مؤسسي جبهة التحرير الجزائرية إشكالية المحظور والمباح في القانون الدولي بأن احترام جبهة التحرير اتفاقيات جنيف وتطبيقها، حتى ولو لم تعترف الدول السامية بجبهة التحرير، كان بمثابة العقد الأخلاقي والحقوقي الأساسي بين جبهة التحرير والمجتمع الدولي. في حين يقع كل ما يتعدى ذلك ضمن استقلالية المقاومة وحركات التحرر، وهو عمل شرعي تماماً في ظل كل احتلال. ونجد آراءً مشابهة لهذا الموقف في الفقه القانوني الدولي الأوروبي وعند العديد من منظمات حقوق الإنسان الأوروبية، كالرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان في الفترة الاستعمارية.
ولا شك في أن أي أمر قائم تحتكر فيه السلطة السائدة العنف ضد الشعب، أكانت محتلة أو دكتاتورية، يناهض فكرة حق مقاومة الظلم والاحتلال. فهل يمكن للمجموعة البشرية التقدم دون مقاومة الاعتياد على روتين المنظومة الحاكمة لوجودها والظلم الواقع عليها؟ العنف عندما يكون دفاعاً عن الحياة وعن الحق في العيش فهو مشروع بكل المقاييس. الأمر الذي يذكرنا بمقولة أبو ذر الغفاري المأثورة: "أعجب لرجل لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه".
وفي الثقافة العربية الإسلامية هناك تأصيل لحق المقاومة. لقد عرف شرقي المتوسط حركات مقاومة مسيحية للظلم ذات طابع ديني مثل النساطرة واليعاقبة والموارنة. وعندما جاء الإسلام وكثر الظلم على المسلمين نزل نص قرآني يعطي المشروعية لمقاومة الظلم.
أما في أوروبا فكان لمقاومة مظالم الكنيسة ومحاكم التفتيش ثمن باهظ. وقد دخل "حق المقاومة" في التراث الأدبي الغربي القاموس مع الحروب الدينية. كما ارتبط تطور مفهوم المقاومة مع تطور مفهوم "العقد الاجتماعي"، ووجود عقد بين الله والشعب وآخر بين الملك والشعب. بحيث إن انتهاك الملك للدين هو انتهاك لهذا العقد، مما يتيح للشعب ممارسة حق المقاومة. وتطور الأمر إلى فك الارتباط بين حق المقاومة والقوانين الإلهية، وإلى القول بقوانين وضعية تنطلق من مصالح البشر، بما يجيز لهم استعمال حق المقاومة في ظل سلطة ظالمة.
جاء إعلان الاستقلال الأميركي (4/7/1776) كوثيقة أولى تنص صراحة على حق المقاومة، وتؤكد أن المقاومة المسلحة هي المرحلة الأخيرة للاحتجاج ضد الهيمنة الاستعمارية (يقصد بها الإنجليزية في ذلك الحين) في المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة. وقد أصبح هذا النص مرجعاً للعديد من حركات التحرر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
بعد عقد ونيف يأتي "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789) الفرنسي ليقر أربعة حقوق طبيعية للإنسان لا يجوز المساس بها: حق الملكية، حق الحرية، الحق في الأمن، الحق في مقاومة الظلم والاستبداد. واعتبرت المادة 33 من النص الثاني لهذا الإعلان، الذي صدر في 1793، أن حق مقاومة الظلم هو النتيجة الطبيعية لحقوق الإنسان الأخرى. أما "إعلان حقوق وواجبات الإنسان الاجتماعي"، الذي أقرته أمة جنيف في 9/6/1793، فنص في مادته العاشرة على ستة حقوق هي: المساواة، والحرية، والأمن، والملكية، والضمان الاجتماعي، ومقاومة الظلم. ثم أكدت المادة 44 أنه "لكل مواطن الحق في مقاومة الظلم" (مواد مقتبسة من موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان).
يعود الفضل في إعادة الاعتبار لمفهوم المقاومة والدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها إلى ثورة أكتوبر/تشرين الأول وولادة الأممية الثالثة، كما للرئيس الأميركي توماس ودرو ويلسون (1856-1924). وسيأتي ميثاق الأمم المتحدة ليقر في المادة الأولى منه حق تقرير المصير والمساواة في الحقوق بين الشعوب. ومع ذلك ستخوض الشعوب المستعمَرة في أكثر من بلد حروباً طاحنة من أجل استقلالها، بسبب رفض الدول المستعمِرة التخلي سلمياً عن مستعمراتها. بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 1960، تخرج التوصية رقم 1514 (15) حول منح الاستقلال للشعوب والأقاليم المستعمَرة، لتكون بمثابة النص الأكثر تقدماً ووضوحاً في هذا المضمار.
فهي تؤكد اعتبار الخضوع للاستعباد الأجنبي أو سيطرته أو استغلاله إنكاراً لحقوق الإنسان الأساسية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، كما تمنع أي استعمال للعنف ضد شعب غير مستقل. وقد مهدت هذه التوصية لإقرار مبدأ حق تقرير المصير في المادة الأولى من العهدين الخاصين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومع نهاية الحرب الباردة، خرجت فكرة حق المقاومة من مجرد حق شعب في الدفاع عن نفسه إلى فضاء أوسع: فضاء المقاومة المدنية العالمية التي تعتبر مثلاً حماية الشعب الفلسطيني وحقوقه مسؤولية دولية لكل مواطني العالم، فمن الصعب أن يشعر المرء، وخاصة في الدول المجاورة لبلد الصراع، بالأمان مع غياب الأمان عن الإنسان الفلسطيني أو العراقي أو الأفغاني إلخ.
أعادت القطبية الأحادية واختلال التوازن بين القوى الدولية مفهوم المقاومة للصدارة، لكون من يمتلك القوة ليس من يحرص على ضمان القيم التي دفعت بالحضارة للارتقاء، ذلك علاوة على أن الأمم تمتلك من القدرات والمعارف والإرادات ما يتيح لها أن تتجاوز ما يفرض عليها من الأقوى.
لكن إذا كان الظلم منتجاً أساسياً للاعقلانية وغياب الأخلاق في العلاقات بين الإنسانية، فهو أيضاً منتج للمقاومات بكل أشكالها. وأول هذه الأشكال، كما أبانت التجربة الإنسانية، المقاومة المدنية. لقد أثبتت أشكال الصمود الفلسطيني ضد كل وسائل تحطيم البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني -بما فيها حصار خانق وعدوان مسلح وحشي غير مسبوق، في ظل تواطؤ غربي وإقليمي وحصار إعلامي وسياسي واقتصادي غير معلن، بهدف فرض استسلام على شعب يفترضون أن تدميره سيجعله يقبل بشروط قوة الاحتلال- أن هذه الوسائل التدميرية للحياة الفلسطينية اليومية الطبيعية لا يمكن إلا أن تواجه بمقاومة مدنية خلاقة.
وكانت المواجهة بإبداع يومي لأشكال المقاومة المختلفة، من صناعة السلاح من المواد المتوفرة، إلى توفير الغذاء بوسائل مبتكرة، إلى الصمود في مجتمع تعرّف فيه أكثر من 24% من سكانه على السجون الإسرائيلية لمدد لا تقل عن ثلاثة أشهر وتتجاوز ربع قرن، وشهد نسب استشهاد تقارب نسبة الضحايا في حرب التحرير الجزائرية، مع وجود أوسع تحالف غربي غير مشروط وشبه دائم لأكثر من 60 عاماً مع دولة احتلال واستيطان أو "الدولة المجرمة" Criminal State، باستعارة تعبير المقرر الخاص للأمم المتحدة جون دوغارد.
هذه المقاومة المتعددة الأشكال غيّرت الكثير من المعطيات التي ظنها الغرب قبل أعوام نهائية. لقد اعتقد أنه، ببضع قوائم سوداء وسجون ورحلات سرية، سيقضي على الفارق الجوهري والهام بين المقاومة كحق أساسي من حقوق الإنسان والشعوب، وبين الإرهاب كوسيلة خرقاء للتعبير. هذا المصطلح الذي لم تجرؤ الأمم المتحدة حتى اليوم على تقديم تعريف له.
بعد عام على جريمة العدوان على قطاع غزة، يمكن القول إن القضية الفلسطينية قد استعادت شرعيتها ومشروعيتها كقضية شعب تحت الاحتلال والحصار. أي وضع الشعب الفلسطيني في صلب تقرير المصير، والمواطنة الكاملة، ودولة القانون ذات السيادة، والكف عن التعامل معه كجماعة منكوبة تحتاج لوكالة إغاثة لاجئين.
لذا أصرت المنظمات الحقوقية، ذات المصداقية في التجمعات العالمية المناصرة للمقاومة الفلسطينية، على أن قضية فلسطين ليست في عمليات الإغاثة، بل في رفع الحصار وفتح الحدود برية وجوية وبحرية. وكل عائق دون ذلك يعطي من جهة كامل الشرعية للإنسان الفلسطيني لمقاومة المحتل الذي يحرمه من حقوق أساسية لوجود الأفراد والدول. ومن جهة ثانية، يضع القوات المحتلة تحت طائلة المحاسبة على كل الجرائم التي ترتكبها بحق الفلسطينيين، أي الانتقال من منطق العويل والبكاء على شعب يعاني إلى منطق محاصرة المعتدي بكل الوسائل المدنية والقانونية، وبالاعتماد على كل أصدقاء العدالة والحريات والحقوق في العالم.
تبدو تعبيرات المقاومة المدنية، ليس في فلسطين فقط بل في أرجاء الوطن العربي، مؤهلة أكثر من ذي قبل لمعركة تجديد البنيان وتقوية عناصر المناعة الداخلية. ذلك مع تعميم شبكات التضامن بين الشعوب وتشجيع كل أشكال التعاون والتنسيق العابرة للحدود. ومن خلال الاستلهام من التجارب واستقاء الدروس والاعتماد على آليات ورؤى وبدائل عملية مجرّبة.
هذا التعاون المثمر بين القوى المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية التي تلتقي على مشتركات أساسها مؤازرة المقاومات في مواجهة تعبيرات الهيمنة والاستعباد واستعادة الحلم في عالم أكثر إنسانية وتعددية وغنى. مشتركات ترتكز على الحق في المساواة بين الشعوب، وتتعزز في التصدي لزحف الفقر والتهميش، ومواجهة ضعف الرعاية الاجتماعية، وتهديدات الأمن الغذائي، واستباحة الطبيعة والبيئة التي تنتقم بإحداث المزيد من الكوارث.
لقد رأينا كذلك في المثل اللبناني وبشكل جلي كيف أن قوى المجتمع المدني قادرة على التصدي لمهامها بجدارة عندما يتاح لها جو من الحريات يمكّنها من إطلاق حملات التوعية والتعبئة بوسائل الاتصال والتواصل، وابتكار أدوات سلمية للمقاومة. فعندما تسمح سياسات المقاومة بتعبيراتها المختلفة لهذا الحيز الواسع الذي يضم كل ألوان الطيف المجتمعي بالتعبير عن نفسه، فإنه يصبح بالإمكان إحداث نقلة نوعية وفرض متغيرات على الواقع العربي المأزوم.
ومن البديهي القول، أخيراً وليس آخراً، أن ثقافة حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، التي يجب تعميمها بكل الأشكال المتاحة، هي أيضاً ما يغذي ثقافة المقاومة. ففيها ما يقوي مناعة الأجيال الشابة ويعيدها لذاتها ولصنع حاضرها وبناء مستقبل أوطانها، وما يوقف نزيف هذه الثروات البشرية الهائلة بالهرب للخارج أو للأمام اعتقاداً منها أنها بذلك ستنجو من ظلم الواقع المعاش.