أدباء الأبراج العاجية
إذا نظرنا إلى الساحة الأدبية، وقرأنا ما تجود به قرائح أكثر الشعراء والأدباء
العرب، وتأمّلنا مدى الفائدة التي يجنيها المجتمع العربي من ذلك النتاج الأدبي
الغزير، فإننا سوف نصاب بالإحباط والذهول، من المحصّلة التي سنحصل عليها من وراء
الرموز والغموض، والمعمّيات التي تكتنف أكثر ما يُنشر في الدواوين والكتب والصحف
مما لا جدوى من قراءته، سوى قتل الوقت، وإزجاء الفراغ، وإفساد الأذواق، وبلبلة
الأفكار.
أكثر أولئك الشعراء والأدباء غير معنيّين بما يجري على الساحة السياسية والاجتماعية والأوباء الأخلاقية.. فهم لا يكترثون لهذا الفساد المستشري في أوساط السياسيين الذين طلّق أكثرهم كلَّ ما يمتُّ إلى المصلحة العامّة بسبب، حسبُ الواحد منهم أن يعلو ولو على جثث أبنائه وزوجته وعشيقاته، ولو على مِزَق الوطن الذي غدا بسبب هذا ونظرائه، أشلاء مبعثرة، وحمىً مباحاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حيتان التجارة الذين يلتهمون كلَّ شيء يعترض طريقهم، في سبيل الإثراء الفاحش عن أي طريق كان، مهما بلغت درجة النجاسة فيه.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى علماء السلاطين الذين يحرقون البخور ويحرقون معه دينهم وأخلاقهم وهم يقدّمون الفتاوى الظالمة في لحنٍ من القول مريب، ويكيلون المدائح في الأفراح والأتراح لهذا الطاغية ولذاك، يسابقون ثلة المنافقين من الشعراء، والساقطين من الصحفيين، في الترامي على العتبات، لا تهمّهم سمعة ولا عار ولا غار، كلُّ ما يهمهم التقاط الفُتات المتناثر من الموائد العامرة بالحرام.
كان الشاعر في الجاهلية لسان حال القبيلة، ينافح عن شرفها، ويفاخر بأمجادها، ويذود عن حياض أمنها وكرامتها.
وكان الشاعر في الإسلام لسان الدعوة الجديدة، يشيد بمبادئها، وينشر ألويتها، ويدافع عن مبادئها وقائدها، ويجاهد في سبيل الله، ويستشهد..
ثم كانت انتكاسة، فصار الشاعر مدّاحة نوّاحة، لقاء ما يُقدَّم إليه من أعطيات.
وجاء عصر (التنوير) وعاد الشعراء والأدباء والكتّاب إلى أمتهم وشعوبهم، يعالجون مشكلاتها بقصائدهم وكتاباتهم، فكان لنا منهم شعر سياسي، وشعر جهادي، وشعر وطني، وشعر اجتماعي، ثم لم يلبث جيل الرواد في العصر الحديث أن انقرض، ليخلفه جيل ثم أجيال متغرّبة في تفكيرها وسلوكها، وفي انزواء بعضها في أبراج عاجية أو زجاجية مهشَّمة، لا نقرأ لواحد منهم وصفاً حياً للسياسي الانتهازي، ولا للتاجر المستغل، ولا للعالم الذي يبيع دينه في المزاد العلني، وفي سوق النفاق النافقة، ولا للصحفي الذي يتلون كالحرباء، حسب المزاد، وعلى من يرسو المزاد، ولا للعامل الكسول، ولا للفلاح التعيس، ولا للمزارع الحوت، ولا للأدباء والكتّاب في سوق النخاسة.
إنّ قلّةً قليلة من أدباء العرب وشعرائهم، تهتمُّ اليوم بما يجري في الوطن الكبير، فتدلي بدلوها في خوف وعلى استحياء، وهي ترى زملاءها يتبجحون في المؤتمرات والندوات المشبوهة، بصلاتهم بالعدوّ، غير آبهين بجماهير هذه الأمة التي تقرؤهم فلا تفهم عنهم شيئاً، لأنهم ليسوا منها، وهي ليست منهم، إنهم عمل غير صالح، إنهم يصبّون في البحيرة الآسنة التي يعلو زبدها وبخارها في زمن العلوّ اليهودي الثاني، لأنهم ينحدرون من أصول حاقدة، أو يأرزون إلى مستنقعات المال الحرام..
وإننا ندعو هذه القلة لتنهض بدورها المشرّف، ولو عاشت الفقر، واقتاتت الآلام والمواجع!
عبد الله الطنطاوي