الربيع فصل دم باهظ الأثمان
تشتد المخاوف من نجاح مشروع التّجزئة والتقسيم في سوريا والمنطقة واشتداد النزاع. والعين تشكك في جدوى التفاوض والحلول السياسية.
إن نجاح أي مشروع يعتمد على مقدمات واسباب وظروف وقوة دعم. صحيح أن سوريا تعيش في أشد الأيام حلكة ومساعي التقسيم والتجزئة والاحتلال حقيقية.. لكنّ الحرب في سوريا أوسع من تقسيم وتجزئة، وقد تجر حروبا واسعة وتورّط أطرافا كثيرة. والتقسيم مثلما له مؤيدون وأنصار له أعداء كثيرون.
والحقيقة أنّ ما يفتح الطريق أمام التقسيم والاحتلال واحتدام النزاع، بالإضافة إلى نظام الأسد وداعميه؛ هو عقلية سائدة في المشهد السوري المعارض لدى أطياف وفئات المثقفين والسياسيين والعاملين في مختلف المجالات المدنيةّ السوريّة في ظل الثورة والحرب، وهي عقليّة الدكاكين المتنافسة؛ فكيف يمكن الحفاظ على وحدة سياسية في دولة واحدة وجغرافيا واحدة، إن كان الانقسام في العقول حاضر، والصراع بعلى النفوذ والمكاسب هو الفعل السائد بين أطياف المعارضة السوريّة، مصحوبا بمظاهر فساد من انتهازية واستغلال وولاء للقوى الكبرى، مع فقدان استراتيجية عمل مستدامة منهجية متفق عليها، وغياب القيادة الجامعة الموثوق بها.
السماء لا تمطر ذهبا... ومن دون جهد حقيقي لا حصاد لنتائج إيجابية. نجني في النهاية أثمان التقاعس والتخاذل والفساد والتفرقة. والشعب حتى يتمكن من اتخاذ قراره الحر الفاعل المنظّم، وصناعة مصير سوريا، مضطر أن يبذل كثير التضحيات. وللأسف هناك وجبات سريعة كثيرة تقدمها مطابخ السياسة العالمية للسوريين، ويتلقاها السوريون ويتصارعون في مكاسبها وأوهامها، ويصبح مستقبل سوريا في مهب الرياح. لكنّ المفترض والمتوقع أنّ مستقبل سوريا وشكلها لا يقرره الروس او الامريكان أو إسرائيل أو اي دولة أخرى، رغم كثير التمويل السياسي مدنيا وإغاثيا وعسكريا وثقافيا، ورغم الاحتلال والعدوان...لكن يقرره شعب سوريا.
فرض الحلول السياسية والثقافية والعسكرية من الأطراف الدولية على السوريين، متزامن مع ضعف في العقلية السياسية والثقافية السائدة في المعارضة والثورة وفي عموم النشاط السياسي السوري المرهون للإرادات مترافقا بالصراعات المشحونة بالمصالح الضيقة وصراع الولاءات وبواقع يتردى. العدوان الروسي والمؤامرات الدولية و نظام طاغية، كل له دوره الأساسي الكبير في تعميق المأساة، لكن يتحمل كثيرون من السوريين العاملين في المسار العسكري والسياسي والمدني والمنظمات والجمعيات والكتائب المقاتلة المسؤولية أيضا. الموضوع أوسع من مجرد مؤامرة دولية تسهم فيه بيوت السياسة بخارجيتها وأذرعة مخابراتها وقواها العسكرية والعلمانية. ولم تعد المعارضة قادرة أن تقف في وجه اي مشروع كاسح.
عقلية الفوضى والغوغائية في توجيه العمل وضعف العمل المؤسساتي ظاهرة عامة في أداء المعارضة والعاملين في الشأن السوري في مختلف المجالات، وقد جاء حصادها الضعف والعجز والانقياد للآخرين، وبالتالي الانحناء أمام الحلول السياسية والعسكرية الدولية. لذلك تغيير العقلية خطوة أساسية للحل وللخروج إلى واقع جديد قوي. فلا يمكن للقوى السياسية الحالية بهذه العقلية وضمن منظومة علاقاتها القائمة على التبعية والشللية تحقيق أي مكسب وطني. الاكتفاء بالتوصيف أو الركون إلى الهزيمة بحجة انسداد الأفق والعجز يزيد في المخاطر؛ فلابد من التحليل وتقويم التجربة ومراجعتها بجدية ووعي والأخذ بعين الاعتبار التغييرات الحادثة، ثم العمل بتشاركية ومصداقية ووطنية، والاستناد إلى المنهجية العلمية. هناك لحظات تاريخية تفقدها الأمم بسبب جهل رجالاتها وفساد منطقهم وجشع نفسياتهم المشبعة بالأنانية والانتهازية. وسوريا في موقع يحتاج التقاط هذه اللحظات التاريخية ولفظ الأخطاء والخطايا. كل الحلول المفروضة على الشعب السوري لا يكفي رفضها باللسان أو التباكي أو الاستسلام بل بالموقف الواعي والعقل الجماعي الوطني.
نجاح التفاوض السياسي مع النظام والعالم، يبدأ من حسن التفاوض السوري السوري في كل المجالات، لحل الِإشكاليات وتقريب الرؤى..وليصبح التفاوض قوة مدعومة بثقل كبير داخلي يمكنها الثبات في وجه التحديات والتآمرات الدولية. لا نفع من الولاءات مهما كانت مؤثرة. بديل ذلك فهم توازنات العالم والقوى الإقليمية والانتماء لمطالب الشعب ومشروع ثورة الحرية التي قدمت الدماء الغزيرة. الالتصاق بالقوة الذاتية للثورة ومطالب الشعب السوريّ. اما الانسياق الحر من دون مكابح في مساء التوازنات الدولية والاقليمة فهو مضر أكثر من كونه يخدم المعارضة السياسية..
ستكون العملية السياسية، ضمن التحديات الكثيرة القائمة طويلة؛ لأنها مترافقة مع عملية تهذيب للعقل السوري السياسي والعسكري والمدني وإعادة تأهيل ثقافي ومعرفي للمعارضة لتعميق وعيها وتنظيم عملها بشكل مؤسساتي فيما يخدم سوريا ومستقبلها ومصير شعبها؛ خصوصا أن الشعب السوري، باغلب حراكه، وقواه المختلفة مازال يعاني الأمراض التي أورثها له النظام عبر عقود من التفرقة والتخوين والتسلط والفساد.
العالم الذي جلب حروبه وومعاركه إلى سوريا، يؤجج المنطقة بالصراع ويسعى لاحتواء كل القوى العاملة في الشأن السوري السياسية والعسكرية وغير ذلك واستغلالها فيما يخدم أهدافه. المعارضة والثورة في حالة استحقاق خطير لمواجهة هذا الاحتواء بتطوير وتمكين كيان سياسي رسمي يمثلها، متأسس على الرؤى المشتركة لا المكونات. على الأفكار وبرامج العمل المتوافقة لا على الأشخاص وما يمثلون هذا النمط من التفكير فوق الآخرين. وفوق الذات الواحدة. التقسيم موجود، ومخاوفنا صحيحة؛ لكنّ تنفيذ التقسيم جغرافيا وسياسيا مشروط باستمرار التشرذم السوري. وفشل التقسيم مرهون بوجود عمل حقيقي سياسي سوري بامتياز يوجّه العملية السياسية بمصالح وطنية. كل الوضع الحالي يمكن أن يكون طارئا، ويتحوّل نحو واقع جديد مبشر، يمكنه التصدي للحلول عندما تستلم الإراداة السورية الناضجة قراراها وفعلها.