ماذا بعد توحّد الشارع اللبناني؟!
حبّذا لو أنّ الأطراف السياسية اللبنانية الممثّلة في مجلس الوزراء قد توافقت ليس فقط على الإجراءات الاقتصادية والمالية التي اُعلنت، بل أيضاً على استقالة الحكومة الحالية وعلى مجيء حكومة انتقالية مُصغّرة، غير سياسية، يرأسها وينضمّ إليها عدد من الاختصاصيين ومن هم غير متّهمين سابقاً في أي أعمال غير قانونية، وبحيث تكون مهمّة هذه الحكومة الانتقالية تنفيذ الإجراءات الإصلاحية المتّفق عليها الآن، وربّما التمهيد أيضاً لانتخابات نيابية جديدة إذا اقتضى الأمر وإذا تعذّر تنفيذ الوعود المرفوعة الآن.
فالغضب اللبناني الكبير الذي يجري التعبير عنه من خلال الحراك الشعبي الشامل لكل المناطق والطوائف، لم يكن من أجل مطالب محدّدة فقط، بل كان هذا الغضب أيضاً موجّهاً ضدّ أشخاص فاسدين هم في مواقع مسؤولة بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، وضدّ طبقة سياسية حاكمة تتوارث الحكم منذ عقود، وبالتالي لا يجوز بأن يأتي الدواء على يد من هم سبب الداء عمداً. فلو كانت الإجراءات الأخيرة تصدر عن جهة حكومية نظيفة جديدة لما كان الشارع اللبناني مستمرّاً في حراكه كما هو الحال الآن. ولقد كان "المؤتمر الشعبي اللبناني" على حقٍ في قوله: "إنّ غالبية الشعب اللبناني فقدت الثقة بنهج الطبقة الحاكمة، ولم يعد تنفع معها المسكّنات بما يسمّى ورقات إصلاحية قديمة أو جديدة، فمن عجز عن النهوض بلبنان طيلة 27 عاماً وراكم عليه الأزمات تلو الأزمات، لا يستحقّ أن يبقى في سدّة المسؤولية".
أمّا وإنّ ذلك لم يحدث، فأمام اللبنانيين فرصة هامّة الآن لاستمرار حراكهم الشعبي المعبّر عن غضبهم وعن مطالبهم من خلال التمسّك بحقّ التظاهر السلمي، لكن من دون اقفالٍ للطرق أو أي ممارسات تُعطّل الحياة اليومية للناس أو تعتدي على الأملاك العامّة والخاصّة. وهناك تجربتان للحراك الشعبي المؤثّر ممكن الاستفادة منهما لبنانياً، ففي الجزائر وفي فرنسا جرى اختيار يوم عطلة الأسبوع للتعبير عن حجم الغضب الشعبي من خلال ممارسة حقّ التظاهر السلمي، وكان لهاتين التجربتين تأثيرات كبيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية في هذين البلدين.
وسيكون ذلك، في حال حصوله الآن بلبنان، سيف رقابة شعبية على الحكومة اللبنانية وعلى مدى التزامها بتنفيذ الإجراءات المعلنة، مع ضرورة التمسّك بالمطالب الشعبية الأخرى التي لم يتمّ الحديث عنها في قرارات مجلس الوزراء.
لقد أصبح معلوماً ما الذي حرّك الشارع اللبناني بأسره، لكن السؤال الآن: ما الذي سيوقف حركته؟ وعلى أي أسسٍ أو حدٍّ أدنى من المطالب الشعبية؟! فالتجمّعات والمظاهرات الشعبية الضخمة في عموم المناطق حصلت، وما زالت، بشكل عفوي ومن دون مرجعية قيادية واحدة، وهذا أمر إيجابي مهمّ يُعبّر عن مدى اشتراك كل اللبنانيين بالهموم ووحدة المصائب، لكن الوجه الآخر لهذا الأمر هو صعوبة التوافق على برنامج واحد للمطالب الشعبية وسقوفها العليا أو الأهداف المنشود تحقيقها الآن، إضافةً إلى أنّ ذلك يفسح المجال لقوى سياسية عديدة من أجل توظيف هذا الغضب الشعبي لصالج أجندات سياسية خاصة.
لذلك، فإنّ من المهمّ الآن إنتاج "هيئة تنسيق" بين قوى المجتمع المدني اللبناني، وأيضاً مع الأشخاص الفاعلين في الحراك الشعبي، من أجل التوافق على برنامج عمل يُحدّد المطالب المرحلية وكذا الأهداف الكبرى المنشودة (كإلغاء الطائفية السياسية)، إضافةً إلى التوافق على أساليب التحرّك الشعبي وزمانه الدوري الأسبوعي وأمكنته الشاملة لكل لبنان، وضمانات سلميته وعدم القبول بأي شعارات أو هتافات فئوية والاكتفاء برفع العلم اللبناني كتعبير عن وحدة اللبنانيين. ففي تحقيق ذلك، تتوفّر عناصر نجاح الحراك الشعبي اللبناني من حيث سلامة القيادة والأهداف والأسلوب.
ما يحصل في لبنان اليوم هم مهمٌّ طبعاً بما قد ينتج عنه من إصلاحات ضرورية لحياة الناس، لكن الأهمّ من ذلك كلّه أنّ شباب لبنان وشعبه يصيغون الآن، ولأوّل مرة في تاريخ بلدهم، المعنى الحقيقي للهويّة الوطنية اللبنانية التي تتجاوز الانقسامات الطائفية والمذهبية والمناطقية. فوحدة المصائب أفرزت الآن وحدة وطنية شعبية حقيقية لم يعرفها لبنان من قبل.
ولعلّها مصادفة زمنية أنّ لبنان هو الآن عشيّة الذكرى المئوية لولادته على يد المستعمر الفرنسي "الجنرال غورو" الذي أعلن قيام "دولة لبنان الكبير" في العام 1920، بعدما جرى تفكيك "الدولة العثمانية" ووضع "سوريا الكبرى" تحت الانتداب الفرنسي بقرارٍ من "عصبة الأمم" في نهاية الحرب العالمية الأولى، ونتيجةً لمعاهدة سيڤر في عام 1920، والتي تقرّر بمحصّلتها تقسيم أراضي "الدولة العثمانية" في البلاد العربية بين بريطانيا وفرنسا حيث أُنتدبت بريطانيا على فلسطين والعراق، بينما أخذت فرنسا سوريا، وكان لبنان جزءاً منها.
ففي الأول من شهر أيلول/سبتمر 1920 أعلن الجنرال غورو تقسيم سوريا إلى عدّة دول، ومنها "دولة لبنان الكبير" جاعلاً بيروت عاصمة لها. ووُصفت الدولة الجديدة باسم "لبنان الكبير" على أساس إضافة مدن الساحل والبقاع وطرابلس والجنوب وسهل عكّار إلى المنطقة الجبلية التي عُرفت تاريخياً باسم "متصرفية جبل لبنان" الذاتية الحكم والتي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ عصر النظام السياسي الطائفي في لبنان وبدأت أيضاً مشكلة "الهويّة الوطنية اللبنانية". فالمستعمر الفرنسي، الذي تحرّر منه لبنان في منتصف حقبة الأربعينات من القرن الماضي، كان مسؤولاً عن صناعة "أزمة النظام الطائفي" وعن حدوث "مشكلة الهُوية" من خلال ما قام به من تقسيمٍ لأراضي "سوريا الكبرى"، حيث رفض العديد من سكّان المناطق التي اُلحقت بمنطقة جبل لبنان هذا التفكيك، كما رفضوا المشاركة في إحصاء السكان الذي أشرفت عليه فرنسا، والذي بناءً عليه جرى صياغة النظام السياسي الطائفي في لبنان المستمرّ حتّى اليوم!.
وما حصل في الأيام الماضية من حراك شعبي لبناني كبير أثبت أنّ اللبنانيين قادرون على تجاوز آثار مائة سنة من مشكلتيْ: الطائفية والهويّة، فهم خالفوا كل الزعامات السياسية الطائفية وصرخوا بصوت واحد: "الشعب يريد تغيير النظام"، لكن "النظام" هنا ليس عبارة عن أشخاص بل هو هذه المحاصصة السياسية التي تجري على أسسٍ طائفية ومذهبية ومناطقية بين من هم يتوارثون الحكم لعقود ولا يسألون عن حال ومصالح المواطن العادي الذي لا زعيم يدعمه.
فلماذا تُمارَس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال التوريث السياسي القائم على الحصص الطائفية والمذهبية؟ ثمّ لماذا "تنتقل البندقية من كتفٍ إلى كتف" على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز عنده تغيير النظام السياسي الطائفي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ ألا يجعل هذا الأمر من لبنان مزرعةً لا وطن؟ ويحوّل الناس من شعبٍ إلى قطيع يُساس ثمّ يُذبَح عند الحاجة؟! أوَليس ذلك هو السبب الأول لكثرة التدخّل الإقليمي والدولي في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي سهّل دائماً تدخّل الخارج، وبإصلاحه تتعطّل فاعلية التأثيرات السلبية الخارجية، وبذلك أيضاً ينتقل لبنان من حال المزرعة والقطيع إلى لبنان الوطن والمواطنة.
هي فرصةٌ هامّة الآن للبنان الوطن من أجل إعادة بنائه من جديد ولترسيخ مفهوم المواطنة السليمة التي لا تميّز على أساس طائفي أو مذهبي أو مناطقي. فهذا التوحّد اللبناني في الشارع يجب أن يكون مقدّمة لتغيير مفاهيم وعادات وتقاليد أقامت الحواجز والسدود بين المواطنيين، وحيث كانت الأجيال اللبنانية تتوارثها كما كان المستفيدون من النظام الطائفي يتوارثونه.
لا قيمة فعلية ودائمة لأي مطالب أو إصلاحات اقتصادية الآن ما لم يتمّ التخلّي عن النظام الطائفي في لبنان. ولا إجماع على "هوية وطنية لبنانية" يمكن الافتخار والاعتزاز بها ما لم تسقط الطائفية السياسية في لبنان. فهي علاقة جدلية بين وحدة المواطنين وبين وحدة الوطن، بين "كلّنا للوطن" وبين "الوطن لنا كلّنا"، بين "مشكلة النظام" وبين "أزمة الهُويّة". فمائة سنة كافية لإزالة آثار المستعمر الفرنسي ومخلّفاته السياسية والثقافية!