القمة الحمراء… بشار في البيت العربي مجددا
اعتدنا على مدى عقود أن نرى الخيبات كلون وحيد يصبغ مؤتمرات القمم العربية، التي على تكرار نسخها لم تغادر مربع التنظير وإطلاق الأمنيات الإنشائية في فضاء القاعات، تأبى حتى جدرانها أن تسمعهم صداها.
لكن قمة جدة الأخيرة، التي استضافتها المملكة العربية السعودية، كانت صبغتها حمراء، بعد أن دُعي إليها جزار الشام المسمى بشار الأسد، الذي لم يُر حاكم في عصرنا هذا يفعل بشعبه كما فعل هو، قتلا وتشريدا وقمعا وتدميرا.
وهكذا بكل بساطة، أعيد بشار إلى البيت العربي ليتم طي صفحة الماضي التي امتلأت بأنين سوري لم يزل يقرع آذان كل من لم ينسلخ من مسمى الإنسان.
وكما تم غض البصر عن جرائم هذه العائلة المنتسبة زورا إلى الأسود، حين ارتكبت مجزرة حماة التي راح ضحيتها ما بين 30 إلى 40 ألفا من المعارضين حسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان، ودمرت ثلثي أحياء المدينة وحوالي 90 مسجدا، وشطبت عائلات بأسرها من السجلات الرسمية بعد دفنهم في مقابر جماعية، وشلالات الدم التي تدفقت في سجن تدمر تنبئ عن التوجه الدموي لهذه العصابة التي تحكم سوريا حين قتلت قرابة الألفين من الشباب غدرا.
كما تم غض البصر عن جرائم العائلة في السابق، غض البيت العربي الطرف عن جرائم بشار الأسد التي ارتكبها على مدى 12 عاما منذ اندلاع الثورة السورية، والتي فاقت كل حد، خلّف هذا الجزار مئات الآلاف من القتلى، وملايين المشردين، ومدنا منكوبة، وديارا صارت والتراب سواء، وفقرا مدقعا في كل المدن التي لا تقع تحت دائرة نفوذه.
يحتضن المجتمع العربي حاكما جعل بلاده مسرحا لحرب كونية وبالوكالة، وجعلها مرتعا لميلشيات الحرس الإيراني والميلشيات الشيعية الموالية لإيران، التي جاءت لتدافع عن مشروعها التوسعي في المنطقة باعتبار سوريا التي يحكمها الحليف الإيراني بشار، إحدى الحلقات الرئيسية في هذا المشروع، وبناء على ذلك عمل مع الميلشيات على إحداث تغيير ديموغرافي في سوريا لتوطين الموالين لإيران، وبناء المحاضن العلمية التي تعزز التشيّع.
وحتى يضمن إنقاذ عرشه من السقوط، أدخل القوات الروسية الغاشمة -الباحثة عن المياه الدفيئة – إلى سوريا لتقيم فيها قواعدها، وتجعل هذه الأرض كرنفالا دعائيا لآلات الدمار والقتل تروجها روسيا عبر السوق السوري بشكل عملي، ما حدا بنائب رئيس وزراء روسيا يوري بوريسوف بأن يقول إن الدول الأجنبية اصطفت في الطوابير لشراء الطائرات الروسية التي أظهرت قدرتها في سوريا.
على أي أساس يتم تعويم هذا القاتل الذي لا يمثل الشعب السوري، إنما يمثل فقط نظامه وأقليته الحاكمة وهو الذي اتخذ من الشعب عدوا، وآثر إبادة هذا الشعب على التنازل عن عرشه.
إن كانوا يقولون إن هذا الاحتضان لتحقيق المصالح العربية الكلية الكبرى، فإنه يحق لنا أن نتساءل: هل تمت إزالة كل العوائق أمام الوحدة العربية وتوافُق البيت العربي ولم يبق من شيء سوى أن يجلس بشار الأسد على المقعد السوري في القمة العربية؟!
هل كانت دعوة بشار للقمّة هي الثمن الذي يقبضه مقابل السيطرة على تدفق الكبتاغون إلى الأسواق الخليجية والسعودية خاصة، والذي يرعاه نظامه؟
هل هي إحدى مفردات التفاهم وإنهاء الخلافات بين العرب وإيران؟
أستطيع أن أتكهن بأي من ذلك، أو أي تفسير آخر، سوى أنها خطوة على طريق جمع شتات البيت العربي، لأن ذلك لا يمكن أن يكون على جثامين شعب بأسره تحكمة عائلة، تتخطى ممارساتها في سوريا بحق هذا الشعب كونها جرائم حرب. منذ عامين نشر موقع العربية نت تقريرا نقل فيه قول رئيس اللجنة المستقلة من أجل العدالة الدولية والمحاسبة ستيفن راب، إن الأدلة التي بحوزة اللجنة عن مسؤولية نظام الرئيس السوري بشار الأسد عن جرائم الحرب أكثر مما توفر للمدّعين في محاكمة قادة النازية أو محاكمة الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش.
أين ذهب الإجماع العربي على ضرورة اقتران التطبيع مع سوريا بإنهاء الصراع المسلح والذهاب إلى حل سياسي يكفل تحقيق إرادة الشعب السوري وتطلعاته؟
تبخّرت كل هذه المفاهيم بعد أن طال أمد حكم بشار في سوريا بتدخل أطراف دولية، جعلت حكومات العرب تعيد النظر في قضية الشعب السوري وفق مصالح وحسابات تلك الحكومات.
ومن نوادر الدهر، أن يحضر القمة بشار والرئيس الأوكراني زيلينسكي في مكان واحد، أقرب أصدقاء بوتين وألد أعدائه تحت سقف واحد، ما جعل علامات الاستفهام تملأ أفق المجال السياسي عن هذه الخطوة الغريبة وعلاقتها بالقضايا العربية الكبرى.
قد نتفهم محاولة القيام بدور الوسيط في النزاعات الإقليمية والدولية، لكن هذه الخطوة غير منطقية بالمرة، فكيف ستحل الأزمة الأوكرانية الروسية في جامعة الدول العربية التي لا تستطيع أن تتخذ خطوة جادة واقعية في حل القضايا العربية المتراصة في طابور الأزمات!
لقد اتخذ الرئيس الأوكراني من القمة العربية منصة لمطالبة العرب بمساندة أوكرانيا، بينما يؤكد بوتين عبر رسالته على تأكيد العلاقات الروسية العربية واهتمام روسيا بقضايا العرب، فما الذي قدمته هذه القمة للأزمة الروسية الأوكرانية!
لذلك يمكن القول إن هذه الدعوة لا تخلو من مجاملة لأمريكا والاتحاد الأوروبي (حلفاء أوكرانيا) لتكون مكافئا لدعوة بشار (حليف روسيا) والذي يتحفظ الغرب على تطبيع الدول العربية معه.
لقد مرّ الأسد على جثامين السوريين في طريقه إلى قمة جدة، التي أطاحت بآمال السوريين في البقية الباقية من النخوة العربية، جاء ليكتب شهادة وفاة الثورة السورية والحقوق السورية بإجماع عربي.
حرص بشار في هذه القمة الحمراء على أن يختصر أزمات العرب في الادعاء بوجود مشروع عثماني مطعم بالفكر الإخواني، في محاولة لخلق اصطفاف عربي ضد تركيا التي تقف في حلقومه وفرضت أوضاعا في الشمال السوري يفرضها أمنها القومي تحول بينه وبين السيطرة على بقية أنحاء البلاد، ودعّمت المعارضة السورية كما فعل العرب في بادئ الأمر.
يتحدث بشار عن مشروع عثماني، رغم أن تركيا ورثة العثمانيين تشهد أنزه تجربة ديمقراطية في المنطقة، ونظامها لا يقتل شعبه، وتقيم علاقات طيبة مع الدول العربية.
يتحدث بشار عن مشروع عثماني ليس له أمارات، بينما يغض الطرف عن مشروع إيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان، ويحتل جزرا إماراتية، وسجله حافل بالقلاقل والفتن والاضطرابات التي أحدثها في المحيط الخليجي خاصة.
سنتذكر جميعا وخاصة الشعب السوري، أن بشار الذي أعيد إلى الحاضنة العربية في قمة جدة، قد خطا إليها على دماء السوريين، وصافح حكام العرب ولم يغسل يده بعد من دم الشعب السوري، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.