بين الأم والظئر
ما من عمل صالح يقوم به السوريون، في رمضان وفي ليلة القدر وفي عشر ذي الحجة وفي كل وقت وحين أقرب إلى الله؛ من سعيهم الجاد الدؤوب إلى تحرير وطنهم، وفك أسر أسيراتهم وأسراهم، وكف يد الظالمين والمفسدين في الأرض عنهم وعمن يليهم من دول وشعوب.
وعلمونا يوم علمونا أن قوله تعالى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ..) إنما نزل يوم نزل، في فريق من المسلمين، قالوا حين لحظوا بعض التمكين، "لو رجعنا إلى أموالنا وزرعنا وغراسنا فأصلحناها.."
فإذا الاشتغال بالزرع والضرع إلقاءٌ باليد الى التهلكة!! ثم لم نلبث أن وجدنا الناس عاكفين حول "ركايا" النفط متحا واحتلابا..!!
أحكي لكم حكايتنا أول أيام خروجنا من سورية، وأوينا إلى عمان، ونعم الظئر كانت، وما زالت. وسكنا بحمد الله في بيوت وليس في خيام. وكنا نؤسس البيت بمائة وتسعة وثلاثين دينارا.
ودخل علينا الشتاء الأول وكل متاع بيتي حصير وست طراحات اسفنجية، نفترشها، في الليل ونقعد عليها في النهار. تقول لي أم أطفالي الثلاثة وكبيرهم في الرابعة، دخل الشتاء، والحصير بارد، وهو لا يكسو نصف الغرفة، فلو أصبت لنا سجادة نقي بها أقدام الأطفال من البرد!!
قلت لها: الأمر أقرب وأيسر، أسبوع أو أسبوعان ونعود إلى بيتنا في حلب!!وتعلمين عندنا في بيتنا في حلب أربع سجاجيد..تكفينا وزيادة..
أسبوع أو أسبوعان !! وتأخرت كتير وما عطيت يا مواسم الزيتون!!
في حديث بيننا نحن ثلاثة إخوة قيل لنا: أننا لو اشترينا تصف خروف، واقتسمناه لوفرنا كذا وكذا من الثمن، وكان ذلك من ضيق الحال. قلنا سدس الخروف سيكفي كل واحد منا لمدة شهر. كان بحدود ٣ كغ.
تساءل أحدنا، فأربكنا: وهل نحن باقون هنا في هذا المقام لمدة شهر؟؟!! وحتى نأكل هذا اللحم؟؟!!فصمتنا حائرين!! حتى أنقذ فصيحنا الموقف فقال: يا إخوتي دعونا نوفر الدينار لكل واحد الآن، وإذا حانت عودتنا، سأعوضكم عما دفعتم، وأتصدق بما بقي لدينا من لحم!!
في كل صباح نقول: رحلتنا غدا..
ومع كل مساء نقول: ونقصت غربتنا يوما!! وقضيناها دواليك أربعة وأربعون عاما..!! ويبكي حين يسمع بكاءنا الحجر.
أقول التغريبة السورية من التغريبة الفلسطينية اشتقت، الفرق فقط ثلاثون عاما عمر جيل واحد فقط.
وكتبت يوما في ساعة حزن، وإذا خرجت من وطنك فلا تقلق إن نسيت المفتاح.
ويرسل لنا كل صباح إخوة نشرات أخبار تحفل بما…يدور تحت شجرة الجوز، أتأمل فيها كل يوم ما يغيب عنها، أكثر من تأملي لما يرد فيها!!
تأملتها اليوم ليس فيها خبر استشهاد أربعة سوريين بقصف الطاغية!! وتأملتها بالأمس ليس فيها خبر أن عدد المستوطنين الصهاينة في الجولان صاروا أكثر من عدد السوريين الأصليين..
أزعجكم إذا قلت: إن سورية، الإنسان والأرض لم تعد أولوية عند الكثيرين..!!
كان قرار ثورتنا قرار عفويا جماعيا لإصلاح الحال في وطننا، وليس لهجرانه أو الهجرة منه.
كتبتُ أكثر من مرة أن الأوطان تبنى وتفدى، والذين كانوا يبحثون عن وطن جاهز، تجبى إليه الثمرات، كان بإمكانهم أن يهاجروا دون أن يحرقوا البيدر.
أكتب هذا باسم جيل من السوريين لم يخرجهم من وطنهم الجوع قبل ١٩٧٩..
ثم بعد أن أخرجوا وما خرجوا، لم تخطف أبصارهم براميل الزيت اللماع..
في فصائل النبات فصيل يقال له: العوالق يتعلق بكل ذي ساق، يتسلق وينغرز. يدب مثل البلاء علوا وسفلا. وما تزال الخلية السرطانية بالجسم الحي حتى تقتله فتموت!!
ومثل هؤلاء لا يمكن أن يشعروا بأهمية الوقوف على الساقين والقدمين، ورفع الرأس عاليا بين الرؤوس. ودائما رأس بنت الخالة وشعرها حاضر للتباهي والتفاخر.
أردنا بناء سورية. تلك كانت حقيقتنا الأولى وما تزال. ولم نرد هجرها!!
لن يلهنا اللهوُ عنها، وكل تشاغل عن مشروع تحريرها وبنائها وجعلها أجمل، لهو..وكل إضراب عن مشروع العودة إليها تفريط وتضيبع.
لكل الناس في أوطانهم مشكلات. وقد تكون مشكلتنا هي الأقسى والأصعب. مشكلتنا المشتقة أصلا من مشكلة أشقائنا الفلسطينين، هذا قدرنا كما هو قدرهم.
الاخوة السوريون الذين يرسلون نشرات الأخبار اليومية لم يتحدثوا عن عودة الاحتلال إلى أسلوب الاغتيال بالطائرات، ولم يتحدثوا عن اقتحام قطعان المستوطنيين بلدات فلسطينية وإقدامهم على إحراقها.
أظن أن ثلثي الأخبار التي تصلني من سوريين تكون عن الموطن الذي يقيم فيه المرسلون
الوفاء للظئر جميل. وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيا لظئره حليمة السعدية، ولأخته منها الشيماء، تذكّره يوم التقته- حسب الروايات، يوم حملته على ظهره فعضها..
ولكنّ البر الحقيقي أن يتلمس أحدنا في اليوم اثنتي عشرة مرة موضع سرته..
عذابنا لن ينتهي بقعودنا ولا بنواحنا..!! ولا بتمديد ولا تجديد الإقامات!!
لو كنتم تعلمون.