العراق أكبر من أن يُبتلع
وأصغر من أن يُجزأ
يحيى السَّماوي
القرار الذي اتخذه مجلس الشيوخ الامريكي يوم الأربعاء الماضي ، قد أسقط القناع عن الغول ، ليكشف عن وجهه القبيح باعتباره " مدمِّرا ً " للعراق وليس محررا كما زعم سـَدَنة البيت الابيض ودهاقنة مجلس الشيوخ وجنرالات البنتاغون .. فهم يريدون للعراق الواحد الموحد ، أن يغدو ثلاثة كيانات طائفية
هشة ، في تحدّ ٍ سافر لإرادة الشعب العراقي ، وللمجتمع الدولي الذي عرف العراق عضوا كامل العضوية ـ بل وفي تحدّ ٍ للقانون الدولي ووثيقة " الشرعة الدولية لحقوق الانسان " والتي نصت في القسم الاول / ملحقها " ب " من الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية ـ / المادة الاولى ، على إنه : ( لجميع الشعوب الحق في تقرير المصير ، ولها استنادا الى هذا الحق ، أن تقرر بحرية كيانها السياسي ) .. ولقد قررالشعب العراقي مصيره منذ دهور ، ولا رجعة عنه حتى لو تواجد صوت طائفي أو عرقي نشاز يستمرئه خارج سرب الشعب الموحد .
أما الادّعاء بأن دواعي التقسيم ، هي إعادة الأمن والاستقرار ووضع حدّ ٍ للمرض الطائفي المستفحل ـ فهو زعم باطل ، لأن المحتل هو الذي هيّأ مناخ اللا استقرار عندما تعمد حل القوات المسلحة ، مثلما هو الذي غرس بذور الطائفية في بعض مواد الدستور .
حسنا فعل السيد رئيس الوزراء برفضه فكرة التقسيم ... غير أن هذا الرفض الرسمي ، يجب أن يُشفع برسالة جماهيرية عبر تظاهرات عارمة تنديدا بالقرار واستهجانا له ، مع المطالبة بالسيادة العراقية الكاملة ووضع جدول زمني لانسحاب " السكاكين متعددة الجنسية ".. فقرار مجلس الشيوخ الامريكي ، يعني بالضرورة ، عدم اعترافه بسيادتنا واستقلالنا الوطنيَين .
على الاحزاب الوطنية العراقية ومنظمات المجتمع المدني ، حشد طاقاتها لأدانة هذا التصرف الامريكي الخطير ، وعدم الركون الى كونه غير ملزم التنفيذ من قبل البيت الابيض ... فقد تكون جملة " غير ملزم التنفيذ " بالون اختبار لمعرفة ردود فعل الجماهير الشعبية العراقية واحزابها ومنظماتها .
ليكن شعار " العراق أكبر من أن يُبتلع .. وأصغر من أن يُجزأ " جوابا على قرار مجلس الشيوخ الامريكي .
جذور فكرة تقسيم العراق
لم تكن فكرة تقسيم العراق الى ثلاث دويلات هشة ، وليدة القرارالذي اتخذه مجلس الشيوخ الامريكي يوم الاربعاء الموافق 26 أيلول 2007 ..فالتقسيم كان هدفا بريطانيا ، ومن ثم اسرائيليا ، قبل أن يكون هدفا أمريكيا ..
في عام 1921 وبعد اختتام مؤتمر القاهرة ، ظهرت الدعوة الى جعل مدينة البصرة والمدن والاقضية والقصبات التابعة لها ، دولة ً مستقلة غير خاضعة للعراق .. وكان المحرك لهذه الدعوة ، بريطاني يهودي يشغل منصب رئيس محكمة البصرة خلال فترة الانتداب البريطاني ، استطاع حشد مجموعة من الانتهازيين ومحبي السلطة من أهالي المدينة الذين قدموا فعلا طلبا الى المندوب السامي البريطاني بتحويل البصرة الى إمارة مستقلة ، غير ان محاولتهم هذه باءت بالفشل حين تصدى لها بعض كبار الشخصيات الوطنية العراقية آنذاك ، وفي المقدمة منهم المرحومان " مزاحم الباجه جي " و " عبد الكريم الشمخاني " كما ورد ذلك في الجزء الاول من كتاب " تاريخ الوزارات العراقية " للمؤرخ العراقي الشهير" عبد الرزاق الحسني " وفي مذكرات الشخصية الوطنية مزاحم الباجه جي نفسه .
وبعد قيام اسرائيل ، بذل اللوبي الصهيوني جهودا حثيثة للضغط على دول القرار السياسي العالمي من أجل إعادة ترسيم المنطقة ، بوضع خارطة جديدة لدول المنطقة ، غير التي رسمتها خارطة " سايكس بيكو "..
في عام 1957 نشر الصحافي الهندي " كرانجيا " كتابا أثار ضجة عالمية وعربية في حينه ، تحت عنوان " خنجر اسرائيل " تضمن وثيقة سرية اسرائيلية عن خطة عسكرية تهدف الى تحقيق حلمها بإقامة " دولة اسرائيل الكبرى " من النيل حتى الفرات ... تقضي الخطة بتفتيت كل من العراق وسوريا ولبنان ... فيتم تقسيم سوريا بحسب الخطة ، الى ثلاث دويلات ، الأولى " درزية " والثانية " علوية " والثالثة " عربية سنية " وأما لبنان ، فيتحول الى دولتين .. " الاولى " مارونية " والثانية " شيعية " ... أما العراق ، فيتحول الى : " دولة كردية في الشمال " و" دولة عربية في الوسط " على أن تلحق المنطقة الجنوبية بإيران ( مكافأة للشاه زمان كان فتاها المدلل وشرطيها الاقليمي ، ولخلق خلل في منطقة الخليج خدمة للأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية والامريكية معا ) .
وحين احتلت اسرائيل في صيف عام 1982 مناطق واسعة من لبنان ، ونجاح ايران في استعادة الكثير من اراضيها في حرب الثماني سنوات ، وبدت كفتها أكثر رجحانا في الحرب ، ظهرت من جديد الدعوة لتقسيم العراق الى ثلاث دويلات على أسس طائفية وعرقية ، كخطوة على طريق تقسيم دول المنطقة الإقليمية ، لأن مثل هذا التقسيم الطائفي والعرقي ، سيبرر وجودها كـ "دولة عنصرية دينية " ، وسيسهل عليها الهيمنة على دول المنطقة ، وتحويل شعوبها الى مجرد مستهلك للبضاعة الاسرائيلية ..
إن فكرة تقسيم العراق هدف اسرائيلي ـ حتى لو جاء بلسان سيناتور امريكي لكنه يلتقي مع المصالح الامريكية ..
فكرة تقسيم العراق وليدة عقود خلت ، وليست وليدة هذا الشهر .. وهذ ما صرحت به علانية " جوديث كيبر " الباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية الامريكية في مقال نشرته مجلة الوسط في عددها الصادر بتاريخ 25/ 12 /1995 حيث ورد فيه : " إن العراق هو أحدى أغنى دول الشرق الاوسط وهو متطور جدا ، ونسبيا يصل الى مستوى بريطانيا وفرنسا ومن المستحيل تجاهل أهميته "
في شهر تشرين الاول من عام 1995 نشرت صحيفة " لوموند دبلوماتيك " مقالا بقلم " بول ماري دوغلاس " ( نشرت ترجمته مجلة الوسط ) جاء فيه : " إن منطقة الشرق الادنى هي منطقة حيوية بالنسبة الى الولايات المتحدة الامريكية ، لذلك تعكف على إعادة رسم خريطتها السياسية " ..
وتأسيسا على ما تقدم ، فإن قرار تقسيم العراق الذي اتخذه مجلس الشيوخ الامريكي قبل ايام قليلة ، لم يكن هدفا جديدا ... فهو هدف اسرائيلي امريكي قديم .. وقد يكون من بين الاسباب التي حملت الادارة الامريكية على احتلال العراق وليس رأفة بالشعب العراقي لإطلاق سراحه من قبضة الديكتاتور الذي أسهمت هي في صناعة مخالبه وأنيابه ..
إن القوى الوطنية العراقية مطالبة بالتصدي الحازم لمؤامرة التقسيم .. عليها الكفّ عن التناحر ، وتوحيد الجهد الوطني المشترك ، وردم المستنقع الطائفي الذي أوجدته الادارة الامريكية ذاتها لتتخذ منه ذريعة لتفتيت العراق ..
إن الواجب الوطني ، يحتم على النخب السياسية جميعا ، بلورة موقف موحد يأخذ على عاتقه مهمة إفشال مؤامرة تقسيم العراق ، وذلك من خلال نبذ المحاصصة والتناحر الطائفي ، ووضع حدّ ٍ للمكاسب الآنية ـ حزبية كانت ، أو طائفية ، أو عرقية .