من يعمل لغيره يربُ عمله
من يعمل لغيره يربُ عمله
د. محمد ياسر عمرو
تشرئب أعناق صنّاع الحياة وصناع التأثير ليبنوا سلّما للمجد لا لأنفسهم بل للآخرين، وهؤلاء على قلتهم في الحياة أثرهم بين ، ونتائج عملهم واضحة المعالم، فهم كالغيث للأرض القاحلة أينما حلّوا نفعوا، وأينما أعطوا أجادوا،وأينما بذروا أنبتوا، همهم النجاح،ومقصدهم النفع، وهدفهم صنع المجد والتاريخ، حروف قصائدهم تبنى من التعب، وبحر شعرهم يموج بالجهد والدمع، دمع العطاء والبذل، وقوافيهم تنظم بحبات العرق الممزوجة برائحة المسك... أعني مسك لذة الإنجاز.
ولله در عالم أرض الكنانة إذ قال : من يعمل لذاته ينقطع عمله بغيابه ، ومن يعمل للآخرين ينمُ عمله ويربُ بعد غيابه أو موته، وهنا الفارق الجوهري بين ذاتي المطمع ودنيوي الهوى، وبين من يعمل لرسم البسمة على شفاه محروميها أو محتاجيها، ومن يعمل على بناء صروح المجد والعلم لأمته ووطنه، ولقومه وأبنائه ، وقد حمل لنا التاريخ وما زال الأمثلة الكثيرة التي تدلل على هذا المعنى، فرحل العلماء وجابوا بلاد الدنيا من أجل نشر علم نتفيأ ظلاله ، أو من أجل إثبات نص أو نفيه حفظ لنا ديننا، أو من أجل تبليغ دعوة، أو حوار مخالف... لله دركم يا من زرعتم وحصدنا، وبنيتم وسكنا، وألفتم وقرأنا، وصنفتم وشرحنا، وما زلنا نتفيأ ظلال مجدكم، ونشدو بأناشيد عزكم، ونفاخر بأطلالكم ..
واليوم - نحن رافعي لواء العلم والعمل والثقافة في كل بلاد الدنيا- مدعوون بجدية البخاري، وصبر مالك، وبذل الشافعي، أن نتحرر من قيد الذات الذي يصارع نفوسنا، ويشق عصا إخلاصنا، ويسحبنا بما أوتي من قوة لدنيء الأمور، وتأبى نفس الحر أن يتقيد بقيد الهوى والذات، وتحضه على أن يتحرر منه ، وينتفض انتفاضة تفك عنه وعنا قيد عبودية الهوى لننطلق جميعا نحو رحابة العمل الصادق الصدوق الخالص النبيل، وأنا إذ أدعو لهذا أدرك أن هذه المنطقة لا يعمل بها إلا من يحب دروب التميز، ويهوى الصيد في الأعماق، فهذه منطقة حذرة ، وليس الكل يحسن التحرك فيها.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل فرد من أبناء هذه الأمة يملك ما يقدمه للآخرين مهما قل علمه، أو نزلت مكانته، ولا يعيب أحدنا اشتغال الآخر بما ارتاحت له نفسه أو وجدها في ميدانه، فمن انسجم مع الأدب قد تعييه البلاغة، ومن سبر غور التاريخ قد تشق عليه ميادين النحو، ومن ارتضى العبادة له منهجا، قد لا يجد نفسه معلماً، وما أجمل هذه الحادثة التي نقلها ابن عبد البر في تمهيده
حيث قال :
إِنَّ عَبْدَ اللهِ العُمَرِيَّ العَابِدَ كَتَبَ إِلَى مَالِكٍ يَحُضُّهُ عَلَى الانْفِرَادِ وَالعَمَلِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ: إِنَّ اللهَ قَسَمَ الأَعْمَالَ كَمَا قَسَمَ الأَرْزَاقَ، فَرُبَّ رَجُلٍ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ، وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يُفتَحْ لَهُ فِي الصَّوْمِ، وَآخَرَ فُتِحَ لَهُ فِي الجِهَادِ. فَنَشْرُ العِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ البِرِّ، وَقَدْ رَضِيْتُ بِمَا فُتِحَ لِي فِيْهِ، وَمَا أَظُنُّ مَا أَنَا فِيْهِ بِدُوْنِ مَا أَنْتَ فِيْهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُوْنَ كِلاَنَا عَلَى خَيْرٍ وَبِرٍّ.
حقاً إن من يعمل لذاته يغب أثره ونفعه بغيابه ، ومن يعمل للآخرين يعش طويلاً حتى لو غاب أو غيّب !!