الوطنية كل لا يتجزّأ
الوطنية كل لا يتجزّأ
أ.د. مها خير بك ناصر
الجامعة اللبنانية
نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة، وبين فاعلية الكينونة، وسكونية الغياب، تبقى قضية الانتماء هاجسًا يقلق ثبات الأفراد والمجموعات والدول، لأنّ الانتماء فعل تكريسيّ لا يلزمه طقس يمنحك بطاقة انتساب، بل هو نبض ذاتي يقلص المسافات بين الغياب والكينونة، فتكون "الهو_ هو"و"الأنا_ أنا" و" الأنت_ أنت" في وحدة " الهم" و" النحن" و"الأنتم".
استنادًا إلى هذه الفرضية هل خرج لبنان على صنمية الطقس، أم مازال مرتهنًا إلى قلق الهوية؟ هل مازال انتماؤه شأنًا خارجيًّا يفرض عليه من خارج من دون إرادة واعية؟
ليس لبنان معادلة بحد ذاته، فالعنصر الفرد لا يشكل معادلة، بل هو عنصر ضروري في إنجاح أية معادلة دولية، ترغب في إنجازها الدول الكبرى.
يحيل السياسيون والمراقبون اهتمام الدول العظمى بلبنان إلى تمايز شعبه وأهمية موقعه الجغرافي، ولكنهم تجاهلوا السبب الأساس في هذا الاهتمام الدولي، وهو، في رأيي، يكمن في قضيتي المواطنية و الانتماء.
ما يزال الانتماء اللبنانيّ يفتقر إلى هوية تحدّد إحداثياته ضمن لعبة الأمم الجديدة التي ترغب في فرض مخططات تتوافق ومصالح أميركا وإسرائيل، ولنكون أكثر دقة مصالح الدولة الصهيونية التي يتغلغل أفرادها المتطرفون المخططون في معظم التجمعات السياسيّة في العالم من أجل الإمساك بالقرارات الدولية؛ لتأتي صياغتها لمصلحة العنصرية الصهيونية العالمية، حتى أنّ بعض السياسيين الأميركيين تنبهوا، وإن جاء الوعي متأخرًا، إلى خطورة اللوبي الصهيوني على سياسة أميركا، و بدأوا يطالبون بالتحرر منه.
إذا كان اليهود في أصقاع الأرض كلّها يعملون من أجل سيادة دولتهم المزعومة، وتعزيز إمكانياتها الثقافيّة والتكنولوجيّة والعلميّة لتكون الأكثر قوة وحضورًا فاعلاً في هذا الشرق، وتكون الحكم، فإنّ اللبنانيين المنتشرين في العالم مازال عدد منهم يسعى إلى القضاء على المقاومة اللبنانية، لأنّ لليهود، مهما تباعدوا، قضية مركزية ينتمون إليها، و تشدهم دائما إلى وطنهم المزعوم، أما اللبنانيون فهم في حالة صراع وتجاذب حول الهوية والانتماء وحول مفهوم المواطنية الصحيحة.
إنّ انتماء لبنان إلى محيطه العربي يمنحه الثبات والقوة والمنعة، ولا يستطيع أحد أن يملي عليه شروطه، ولكن المشكلة أنّ اللبنانيين يرون في عدم الانتماء حرية وديمقراطية يتمايزون بهما عن بقية شعوب المنطقة.
الحرية والديمقراطية شرطان ضروريان للمجتمعات والأوطان والأمم، شريطة أن ترتبطا بوعي شعبي يصون الجوهر ويحافظ على الانتماء، ولبنان يفتقر إلى انتماء ثابت مما يجعله الرقم الأسهل في أية معادلة رياضيّة عالمية، أو العنصر الكيمائي الأضعف في أية تسوية سياسية، أو حجر شطرنج في أية لعبة دولية، نعم إن القضية اللبنانية منوطة برغبات الدول الكبرى ومصالحها، وخلاصه مشروط بثبات أبنائه وبممارستهم فعل المواطنية، وبتعزيز شعور الانتماء إلى القضايا العربيّة الكبرى.
الانتماء الجغرافي كيان مغلق له حرمته، وهو ارتباط بالمكان، والمكان ثبات، والانتماء السياسي هو ارتباط آني مصلحي تفرضه الظروف، والارتباط الديني شعور وجداني يقرب المتدينين، إلى أية طائفة انتموا، من إنسانيتهم، ويبقى الانتماء إلى قضية الكرامة والسيادة والحرية والاستقلال مشروط بوعي قومي، والوعي القومي يحتاج إلى قراءة موضوعية للأحداث التاريخية، ومن ثمّ وضع تصورات منطقية تؤسس لمستقبل ينعم أفراده بالحرية والديمقراطية.
إنّ ما يحتاج إليه اللبنانيون، اليوم، موقف وطنيّ جريء قادر على تحديد بوصلة السلامة والأمان، وقادر على إعلان انتماء لبنان إلى محيطه العربيّ، وقادر على التخلي عن المصالح الفردية والمناطقية الضيقة، وعلى السعي إلى تعزيز دور لبنان الحضاري والثقافي في العالم، شريطة أن يكون الانتماء، أولاً، إلى لبنان الوطن، بكلّ ما يفرضه الانتماء الوطنيّ من مقومات وتضحيات رغبة في العبور بلبنان نحو مستقبل أكثر حضورًا وفاعلية بعيدًا عن التجاذبات والصراعات والمصالح الشخصية التي تعززها الدول الخارجيّة، فيكون اللبنانيون جميعهم مواطنين أحرارًا يضعون مصلحة الوطن قبل أي اعتبار، وذلك قولاً وعملاً وأداءً وعاطفة وجهادًا ومقاومة ورقيًا وثقافة وعلمًا وأدبًا وفكرًا وحضارة؛ لأنّ المواطنية كلّ لا يتجزأ وبتكريسها فعل وجود تتحقق الكينونة والسيادة والحرية والانتماء الصحيح.