عراقة بريطانية
عراقة بريطانية..
حسب الحاجة فقط !؟
بسام الهلسه
* تعرَفُ بريطانيا في العالم الغربي وفي العالم بأسره، على أنها الدولة الأكثر عراقة في مؤسساتها الدستورية ونظامها الديمقراطي الليبرالي. لكن هذه العراقة ليست كافية لمنح البريطانيين حصانة ضد تحايل قادتهم وتلاعبهم بهم، مع أنها تسمح لهم بمساءلتهم والتحقيق معهم في حال اكتشاف تحايلهم. أقول هذا بمناسبة التحقيق الجاري مع رئيس الوزراء البريطاني السابق "توني بلير" الذي تجريه لجنة بريطانية لفحص مدى خداعه لهم فيما يتعلق بقراره -حينما كان في السلطة- بالمشاركة في شن الحرب على العراق في ربيع العام 2003م، بدعوى كونه ـ أي العراق ـ يمتلك أسلحة دمار شامل، وتربطه علاقات بمنظمة القاعدة، بما يشكل تهديداً لبريطانيا.
وكما نذكر، كانت قطاعات مهمة من البريطانيين قد عارضت المشاركة في غزو العراق حينها، لكن معارضتها لم تجدِ نفعاً، وكانت القوات البريطانية هي الشريك الثاني الأكبر لجيش الولايات المتحدة الذي غزا العراق، وكمكافأة على هذه المساهمة المتميزة أوكلت لها مهمة السيطرة على منطقة البصرة جنوبي العراق الغنية بالنفط والواقعة على الحدود مع إيران والكويت، وإدارتها.
ولو أن الأمور جرت في العراق المحتل كما اشتهى وخطط القادة الأميركيون والبريطانيون، لما اكترث أحد للأصوات المعارضة للحرب والمنادية بمساءلة بلير والتحقيق معه, وفقط، عندما تبين للأغلبية مدى التورط في مغامرة الغزو والاحتلال، تم تسليط الأضواء على أكاذيب بلير وطلب استجوابه الذي بوشر فيه فعلاً.
لكن إنشغال البريطانيين يبدو منصباً فقط على ما يتعلق بخداعهم بخصوص العراق، فيما يبدو ضئيل الاهتمام بما جرى للعراق, دولة ومجتمعاً ومؤسسات وثروات، من دمار وتمزيق. فهذا شأن يشغل فقط قلة قليلة جداً من ذوي الضمائر الحية في بريطانيا. أما عموم البريطانيين، فالأمر لا يعنيهم إلا بقدر ما ينعكس عليهم من تأثير وخسائر.
ولا غرابة في الأمر هنا، بل هو مما يتفق مع التقاليد البريطانية الاستعمارية والامبريالية تجاه الشعوب. وهي تقاليد أكثر عراقة ورسوخاً من المؤسسات الدستورية التي يباهي بها البريطانيون.
ولو أن البريطانيين كلفوا يوماً أنفسهم عناء السؤال عمّا فعلوه بالشعوب والبلدان التي استعمرتها أو استغلتها دولتهم ، والتي بلغت حدَّ السيطرة على خُمْسِ الأرض في الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في مطلع القرن العشرين، لكان عليهم أن يمضوا عدة أجيال في تسديد ما للشعوب بذمتهم من جرائم اقترفوها وثروات نهبوها ومآسٍ صنعوها، ما زالت آثارها ونتائجها باقية فاعلة حتى الآن كجريمتهم في "سايكس- بيكو" ومنح فلسطين للصهاينة.
لكن طبقات الأمة البريطانية: الارستقراطية، والرأسمالية، والعمالية أيضاً، ومعها أرتال الموظفين والبيروقراطيين والكتبة، أكثر "ذكاءً" من أن ينشغلوا بهذا الموضوع.. فقد أفرغوا طاقاتهم وهِمَمهم في ما هو أجدى: تقاسم غنائم الأمم والبلدان التي تغزوها جيوشهم، أو تحتال عليها حكوماتهم وشركاتهم وسماسرتهم.
هذه الذهنية ";التقاسمية" وعوائدها المربحة هي التي مكَّنت البريطانيين تاريخياً من إمتصاص الاحتقان الداخلي وإيجاد تسويات فيما بينهم، وليس المؤسسات التي يتفاخرون بإرسائها في
ولكي لا يظن أحد بأننا نبالغ فيما نقول ونتجنى على "بريطانيا العظمى"، خصوصاً من الليبراليين العرب المفتونين بتجربتها، والذين كان "جان جاك روسو" قبل قرابة قرنين ونصف، أكثر منهم إحتراساً تجاهها، فإننا نحيل هؤلاء المعجبين ببريطانيا وتقاليدها المؤسسية وأخلاقها، وحتى بمطبخها ذي السمعة الأسوأ بين مطابخ أوروبا والعالم، نحيلهم إلى مشروع القانون الذي تقدمت به حكومة رئيس الوزراء "غوردن براون" المُفصَّل على مقاس "إسرائيل" والرامي إلى تغيير قانون سابق يجيز للقضاء البريطاني إصدار مذكرات اعتقال بحق شخصيات أجنبية, مشتبهة بارتكاب جرائم حرب، عند زيارتها لبريطانيا. ولا تبدو الحكومة البريطانية عابئة بكون مشروع قانونها الجديد يتعارض مع الالتزامات الدولية التي كانت بريطانيا بالذات من أهم المساهمين في صياغتها وإقرارها، فالمهم هو مصالحها ورضى "إسرائيل" والصهاينة عنها, أما "الضمير الإنساني" فهو بالنسبة لقادتها كـ"الكرامة" بالنسبة للقادة العرب: قابل للتكييف والتغيير في أي وقت حسب الحاجة!