فتح وحماس وما بينهما
د. عناد السرخي
استطاع أبو عمار أن يستثمر انتفاضة عام 1987 والظروف السياسية في أعقاب حرب الخليج في بناء الأسس الأولية للدولة الفلسطينية القادمة من خلال مشروع السلطة الوطنية بكل مالها وعليها.ومع قدوم السلطة تحولت فتح الى سلطة بكل ما تعني الكلمة من معنى، ليس لأنها أرادت ذلك طوعا وإنما لان الساحة الفلسطينية قد خلت من القوى الأخرى الراغبة بالمشاركة في هذا المشروع الذي حكم عليه من قبلها بالموت والفشل مقدما.ولان أبو عمار يدرك تماما حقيقة ملامسته العواطف وآمال الجماهير الفلسطينية فقد احتل بمكانته الاستثنائية موقع الراعي والأب الحنون لكافة ألوان الطيف الفلسطيني، فهو من ناحية قد سحب البساط من تحت أقدام القوى المعارضة من داخل حركة فتح والتنظيمات الأخرى وحتى الدول العربية التي عارضته في هذا المشروع.
اذن كان من الطبيعي ان تتحول فتح الى سلطة شعب،وكان من الطبيعي كذلك ان يجد الكثيرون في هذه السلطة مشروعا، وبدلا من التأكيد على بناء حركة فتح حسب الاصول لتكون العمود الفقري للسلطة،راح الفتحاويون يتنافسون فيما بينهم ويتلاهثون ويستوعبون في المواقع والمناصب الى درجة اصبح هؤلاء يشكلون كل في اتجاهه تيارات متصارعة على المراكز و النفوذ والاستئثار بالمكاسب ، ومن هنا بدات حكاية الحركة التي اضعفتها الخلافات ومزقها الانتهازيون الى درجة اصبح معها يجري الاقصاء المنظم للكوادر المميزة حتى اصبحوا على هامش الحركة والسلطة كما لو كانوا طابورا من المنشقين بل و اكثر من ذلك.
صرخ المخلصون في الحركة،وكلما ارتفع صوتهم،كلما زادت درجة استبعادهم، بل وحياكة المؤامرات ضدهم، الى ان اقترب موعد الانتخابات الداخلية في فتح التي كانت سبيلا اخر للاطاحة برموز الحركة وكوادرها، وبالتالي سحق اية امال حقيقية في النهوض من جديد، الى ان بلغت مواقف قطاع واسع منهم الرغبة بالقصاص في يوم الحساب،الذي فاجأ العالم بنجاح حركة حماس نجاحا لم تتوقعه حماس نفسها.
ان نجاح حماس امر مقبول كخيار ديموقراطي من حيث المبدأ، لكنه نجاح غير مقبول من حيث كونه تحولا استراتيجيا في هذه المنطقة، لهذا بدأ حساب الشعب الفلسطيني ومعاقبته وبالتالي فان فشل حماس كان وسيكون كما هي الحال لاسباب موضوعية وسياسية ولكل الاسباب الاخرى ، لان حماس بما تمثل من هوية وعنوان ليست ذلك الاطار المرغوب فيه في منظومه العالم الجديد، الذي لا يعرف القيم ولا الاخلاق بالمطلق، لانه لا يدين الا لقانون القوة وافرازته المصلحية ذات الاتجاه الواحد، فأما ان تدخل حماس هذا النظام كشريك هامشي او تضع نفسها في موقع المتلقي لسياساته وافرازاته، لكن حماس ليست حزب الله وليست ايران، وما يمكن ان تقوم به الحركة في محاولة منها لضرب هذه المنظومة الدوليه او التأثير بها حتى ولو على الهامش، يعتبر محاولة انتحار حقيقية، وهذا ما اقدمت عليه حماس منذ توليها عرش السلطة وحتى احداث غزة.
من المهم ان تدرك القوى الفلسطينية الاسلامية والوطنية ،على انهم جميعا يلعبون في مساحة كثر فيها اللاعبون،الذين يشاركوننا اللعب،بل ويلعبون بدلا منا احيانا، كما لو كانوا اشباحا تلازمنا، وحتى نتمكن من ابعاد تلك الاشباح لا بد وان نلتصق بالواقع الحقيقي الذي يعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني واماله.
ان السؤال المر في هذا الحوار ليس فيما وصلنا اليه، وما قد نصله في المستقبل من وضع اسوا،وانما حقيقة وعينا بمسأله مهمة، وهي حقيقة كوننا شركاء في الجريمة او لا، وهل نعي ما يحدث او لا؟. كنت اتمنى على حماس ان تتربع على عرش المعارضة منذ اللحظة الاولى،وكنت اتمنى على حركة فتح ان تستوعب اسباب الهزيمة وتنهض من جديد كتنظيم يشكل العمود الفقري للحركة الوطنية، ولكن حماس لم تفعل وكذلك فتح، فأي بصيره عمياء هذه لكليهما..فهل يفترض في هذا الشعب ان يعود كل مره الى المربع الاول، ليبدأ من جديد. سنعود لعام 1996 لان حماس لن تنتهي بحصار غزة، ولان السلطة لم تؤسس لسلطة القانون القادر على سحب سلاح المليشيات ومأسسة قوى الامن لتصبح اطر امنية وطنية ، لا ولاء لها غير الوطن والشعب، ولاننا سنقف مكتوفي الايدي ازاء الفساد في مؤسساتنا، ولان المواطن لدينا لا زال رهينة للقمة عيشه ومصالحة الشخصية.
ان حركة فتح مطالبة الان اكثر من أي وقت مضى على ان تنهض من الركام، وان العقلانية في ادارة الازمة الحالية مع حماس هي في الواقع الروح التي يجب ان تعيدها الى قيادة الشعب الفلسطيني بشرف، وخلاف ذلك يعني ان الحركة ستعجز عن استقطاب الجماهير على اسس عقائدية، وسوف تكون بذلك وعاء مصلحي معرض للانتكاسه بين يوم واخر. كما ويجب على حماس ان تعترف باخطائها كما هو مطلوب من فتح والحركة الوطنية، لان وحدة الارض الفلسطينية والشعب الفلسطيني لا يمكن تجزأتهما.
اسرائيل هي في واقع الامر لاعب اساسي في المعادلة الفلسطينية وهي العدو المركزي الذي لا يزال يحتل بقوته العسكرية كامل التراب الفلسطيني، ونحن كسلطة وطنية لسنا وكلاء ادارة لواقع الاحتلال ومصالحه، بل مكبلون بحكم قوانينه.فلا حكومة حماس حكومة، ولا سلطتنا سلطة، ولا نملك اكثر من ارادتنا ووعينا لمواجهة افرازات ما يحدث على ارض الواقع بسبب ما نحن فيه من حال.
فيما مضى كان لمقاومتنا عنوان ولمناضلينا هوية، نصبر لاهداف ونتجرع الهوان لاسباب، ولكننا اليوم فقدنا البوصله، وعلينا ان نقر بألم على اننا نشهد ظواهر لحالات انهيار مجتمعي، غدت كارثية في اسبابها وطبيعتها، والمطلوب من الحركة الاسلامية الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات ان تكثف نشاطها التربوي بين الجماهير، حتى تجند كافة قطاعات المجتمع لخدمة الوطن وقضاياه.
ان حقيقة ما نعايشه اليوم يدفع الناس لقبول خيارات اخرى وسلوك مناهج جديدة في ظل غياب حقيقي لسياسة التوجيه التربوي الوطني المنظم والهادف، وبكل اسف يساهم اعلامنا وبشكل سافر في تأليب طرف على اخر كما لو كنا نخوض حربا ضد انفسنا. نحن نعيش الواقع وندرك تماما على ان فتح وحماس وسائر القوى الاخرى فيها من الشرفاء ما يكفي لدفع هذه المهزلة، واخذ الدور المناسب في تصويب الاوضاع، وان اللحظة قد اتت ليرفعوا اصواتهم ليشكلوا سدا مانعا حتى تخلو ساحة الوطن من الفئات التي تنعق بالخراب، فهؤلاء فقدوا رجاحة العقل وحسن التدبير، واصبحوا فئات متخبطة،تتقاذفها الامواج، تنتقل من بيدر الى اخر وفق اهدافها ومصالحها الانية.
ان طوق النجاة الحقيقي يتجلى في قدرة فتح وحماس وكل القوى الاخرى على تجاوز هذه الازمة الكارثية الى ما هو افضل، والا سيكون من الطبيعي ان يكون للناس موقف اخر، ولا يجدر بالقوى الوطنية وغيرها، ان يظنوا ولو للحظة ان رصيدهم سيرتفع على اكتاف فتح وحماس، انما ستطال لعنة الجماهير كل من هب ودب في بحر السياسة الفلسطينية.