الاسترداد النفسي أوّلاً...
الاسترداد النفسي أوّلاً...
أ.د/
جابر قميحةيقال: إن صلاح الدين الأيوبي ـ في زحفه الميمون لاسترداد القدس والمسجد الأقصى، كان يأمر المسلمين بعد صلاة العشاء، أن تتحلق كل مجموعة أمام خيمتها لتلاوة القرآن. فإذا رأى خيمة صامته أشار إليها، وزجر أصحابها، وقال في غضب "الآن نعرف من أن نؤتى"، أي أننا إذا هزمنا فالسبب هو هذه "الخيمة الصامتة".
لأن التلاوة ليست مجرد كلمات تردد، ولكنها تزرع في القلب الطمأنينة واليقين "ألا بذكر الله تطمئن القلوب. وفي التلاوة الصادقة الخاشعة إرضاء لله سبحانه وتعالى الذي ضمن النصر للمؤمنين ـ والتلاوة مَعْلم من معالم الإيمان. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وقال (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) فإغفال التلاوة إذن، إنما هو إغفال لباب من أبواب النصر فتحه الله للؤمنين.
* * *
وأمام هذه الطاقة الإيمانية الخارقة، يصبح قليل المؤمنين كثيرًا، ويصبح كثير الأعداء ـ في نظر المؤمنين ـ قلة غير فاعلة.
في غزوة "مؤتة" كان عدد الروم ومن والاهم مائتي ألف، أما عدد جيش المسلمين، فلم يزد على ثلاثة آلاف، واستشهد القائدن: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وجاء الدور على القائد الثالث الذي عينه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو عبد الله بن رواحة، ورأى أن أغلب المسلمين يستشعرون الخوف من هذا الحشد الهائل من الروم، فخطب المسلمين قائلاً:
"يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة" وظل يقاتل حتى لقي ربه شهيدًاز
* * *
وأمام هذا الشحن المعنوي الإيماني، يستهين المسلم بكل قوة، وكل شدة؛ لأنه يملك عدة التصدي، أو قائمة القيم التي يجابه بها أعداءه، من صبر، وثبات، وشجاعة، وإيثار. فهي عملية إعداد نفسي من ناحية، وعملية تعويض عن أي نقص في عدته المادية من ناحية أخرى.
وقد أكد عمر بن الخطاب هذه الحقيقة في إحدى رسائله إلى سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهما ـ وكان سعد قائدًا لجيش المسلمين في جبهة فارس، كتب عمر إليه: "أما بعد: فإني آمرك ـ ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما سينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم؛ فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننتصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا، ولا تقولوا: إن عدونا شرّ منا، فلن يسلَّط علينا، وإن أسأنا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل ـ لما عملوا بمساخط الله ـ كفرة المجوس (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً) (الإسراء: 5).
إنها حقيقة إيمانية، وحقيقة واقعية يؤيدها الاستقراء التاريخ، فمتى نعي؟ ومتى نأخذ أنفسنا بالحق والحقيقة، حتى نسترد المسجد الأقصى والوطن الفلسطيني المنهوب؟