ليلة الخامس من حزيران
ليلة الخامس من حزيران
مواطنة سورية
الساعة الواحدة والربع ، الليلة (ليلة الخامس من حزيران 1980)، جدران البيت اهتزّت ..طرقات غريبة ...إنهم غربان الليل ، بومة الخراب تنعق ...ماذا دهانا ...ما الذي جرى ؟!! نحن في بيتنا آمنون، في سربنا نتسامر ... ونشرب الشاي .... نأكل الكعك ....نتجاذب أطراف الحديث في بيت أهل زوجي .. يا ألله لقد اقتُحم البيت .. أين أحمد؟ .. أين المجرم؟ أين أتباع كامب ديفيد؟؟
تلفتّ حولي بدهشة ...الوجوم خيّم على الجميع .... تسمّرت الأقدام ...وتجمّد الدم في العروق ... الكل لا يدري ماذا ....لماذا ....ما الذي حصل ..!؟
وقف أحمد أمامهم بطلاً ، تاركاً الكأس الذي لم يَشرب منه إلا رَشَفات .... وقطعة الكعك التي لم يكملها بعد . أنا أحمد .. ما الذي تريدونه ؟؟؟
أنت أحمد ؟؟ أنت هو ؟؟ وهنا هجم عليه أحدهم ... فلقد وَجد ضالته التي تلذّذ بتعذيب أمثالها ( لا يمكن أن يوصف بأنه حيوان ، فالحيوان أرقى وأعلى وأرأف منه ! فهو من الذين تربّوا على الساديّة والإجرام ، ليتخلوا عن كل ما تعبر عنه كلمة إنسان ...وإنسانية !) و أمسك بيديه النجستين ، تلكما اليدين الطاهرتين المتوضئتين ،اللتين طالما أمسكتا بكتاب الله ، وعملتا في سبيل الله ، ليضع فيهما قيدا ً، منتشياً كأنه انتصر.. فقد وقع على صيدٍ ثمين !
وبدأ التفتيش ... وبرزت البطولة ( آه ...حقّاً فهذه ليلة الخامس من حزيران ! وما أشبه الليلة بالبارحة .... في مثـل هذه الليلة من عام (1967) ، أيْ : قبل ثلاثة عشر عاماً ، كان الجيش العقائدي يتأهّب لقتال الصهاينة ) !
أين السلاح ...!؟ أين المجموعة التي كانت معك..!؟ هذا يركل ..وذاك يضرب ويصرخ ..
ربّاه .. ما الذي حصل ؟ هل زوجي هو الذي خان وسلّم الجولان ؟ هل اتصل بالعدوّ الصهيوني ؟
أهو الذي دعا إلى عقد الصلح مع من شرّدوا شعبي واغتصبوا مقدّساتي ( القدس مدينة السلام)!؟ .. ووسط هذه الصدمة التي حلّت بالجميع ، قُطِع الصمت ...صوت لحيوان يهاجم فريسته : أين هي زوجته ؟؟ أين أولاده ؟ وعادت الأفكار : إن كان هو خان الوطن و الحزب والمبادئ ، فما علاقتها هي ؟ وما علاقة ابنته التي لم تبلغ السنة الثالثة وثلاثة أشهر من عمرها ، وابنه الذي يبلغ السنة وثلاثة أشهر ..!؟ تعالوا معنا ... هاتوا هؤلاء المجرمين .... يا ألله كم في هذه الدنيا من عجائب ! كم فيها من أمور قد لا ندركها ! وهذا ليس مستغرباً حين تضيع القيم والمبادئ ، ويسود الرعاع ! فربّما... ولا أدري أن هذه الطفلة البريئة ، التي تدور عيناها هنا وهناك ، ولا تدري ما يحصل حولها ...لا أدري ما إذا كانت هي السبب في هزيمة حزيران ..! هذا الطفل الذي لا تكاد خطواته تتوازن ، والذي لا يزال يرضع ثدي أمّه ، هو الذي حَرم الطفولة من براءتها ، وانتشل الفرحة والابتسامة مِن أفواه الأطفال .. وشرّد آلاف الأسر.. وحرم آلاف الأطفال من آبائهم ، فاعتقلهم ، أو شرّدهم خارج البلاد ، هرباً من الظلم والقهر .. وأعدم الآلاف دون محاكمات في أقبية سجون تدمر ... وحلب ...ودمشق ...وحماة ...وحمص ...ودير الزور ..! هذا الزمان قد يأتي بالكثير، الذي لا يمكن أن تدركه عقولنا القاصرة ! فهؤلاء ولاة أمورنا .. هم المسئولون عنا وعن أمننا ...وراحتنا.. يعرفون عنا مالا نعرفه ... نحن أمانة في أعناقهم ، سيقف كل منهم بين يدي جبار السماوات والأرض ليسأله عمّا استرعاه .... هم خلفاء الله في الأرض لإقامة شريعته ، ورفع لواء العدل والعدالة . فهم غير متَّهمين ..!
وجُرّت الأسرة بأكملها ، يرافقها ركب من ثلاث سيارات ، هم بالوسطى ، وتحميهم سيارة من أمامهم ، وأخرى من خلفهم ...يا إلهي كم نحن محترمون ..! وكم يخافون علينا ..! وتسأل شيماء بابا .. ما هذا الذي بيديك ؟ إنها إسوارة يا ابنتي ( حقاً إنها إسوارة الفخار تطوّق يديْ حرّ..عامل في سبيل الله .. فوالله ماعهدتك إلاّ هكذا ....) استوصي بوالدتك خيراً ... اسمعي كلمتها .. ويَقطع الحديث صناديد حزيران ( فهو ينغّص عليهم فرحة النصر على العدوّ الصهيوني ..!) ويصل الموكب إلى أمن الدولة .. اسم له معناه ..إنه أمن للدولة ..! وتخلّص من الرجعيين الذين يعيقون التقدميّين ، ويقفون سداً في وجه الوحدة والحريّة والاشتراكيّة .... فهم لا يعرفون معنى الحرّية ، لأنهم لا يخضعون إلاّ لله !! ولا يعرفون الركوع والسجود إلاّ لله وحده !
يجب التخلّص منهم ، لأنهم لا يبيعون أرواحهم إلاّ لخالقهم.. فالشهادة عندهم هي الحياة الحقيقيّة والخلود ..!!
وهكذا تبدأ الصولات والجولات ...تعالَ يا مجرم ...يا حقير ... تعالَيْ يا زوجة المجرم.. ألا تعرفين مَن زوجك هذا !؟؟. هل أنت جامعيّة !؟؟. نعمْ.. إنهم لا يتزوجون إلاّ جامعيّات وبنات عوائل .. وأحوالهم المادية ممتازة لماذا !؟ ووسط هذه التساؤلات( لماذا اختار لي والدي هذا الشاب ! فقد كان مسلماً ملتزماً ، دأب على تربيتنا تربية إسلاميّة ، فهو، حسب قوله ، لا يطعمنا إلاّ لقمة الحلال ! وحين كنا نسهر، كان يقرِأ أحدنا من كتاب ، ويتناقش الجميع حول فكرة معيّنة .. ثمّ هو لمْ يسأل إلاّ عن دين زوجي وخلقه ، حين رضيه لي.. فهل كان مخطئاً؟ يا ألله !).. وهنا ننتقل من حفلة تعذيب إلى أخرى ، بعد أن أعيد ولداي إلى ما لا أدري ...لقد بقي الحال أسبوعاً ، لا أشمّ فيه إلاّ رائحة النتن ، ولا أسمع إلاّ أنين المعذَّبين ، وزئير المعذِّبين .. واستغاثة المستغيثين بجبّار السماوات والأرض !
ها هو ذا أحمد ، يُربط على خشبة قائمة الزاوية ، يُضرب على رجليه ، تُوضع الكهرباء على جسده الطاهر ، يُداس على وجهه بالبسطار ، يسيل الدّم من جسده ، لماذا..!؟ ثم يُحمل لأراه، إمعاناً في التعذيب ، ولإضعاف روحه ، وكسر صموده .. وتخرج الكلمات متقطعة مرهقة : لقد تعبت يا أمّ .. وتكون كلمتي: ( لا تحزن إن الله معنا ... إنه لن يضيّعنا ..).
الضربات تتوالى .. ويكون اللقاء الأخير في الدنيا .. ليسير كل منا في دربه .. حيث لا يدري ما حلّ بالآخر، سوى أننا تعاهدنا على المضيّ في سبيل الدعوة ، في طريق الإيمان ، حتى ينجز الله وعده " وكان حقاً علينا نصر المؤمنين " ويكون شعاري ( فإنه لن يضيّعنا ...) إنها هاجر زوجة إبراهيم ..أبي الأنبياء... قالتها حين تركها إبراهيم عليه السلام ، وابنَها إسماعيل الصغير ، بوادٍ غير ذي زرع.. ويكون منها ما يكون.. وتبقى عناية الله هي الراعية لهم .. وتهوي إليهم الأفئدة من كل مكان ... ويغدو الوادي القاحل المقفر ، محجّة للبشرية حتى قيام الساعة ..!
وإن الله لن يضيّع آلام شعبنا الصابر ... ولن يخيّب آمالنا في وطن آمن مطمئنّ رغيد ... ويومها ستعود شيماء ، متشابكة الأيدي مع أخيها وأسرتيهما ، وأنا أرنو إليهم وأقول : لتقرّ روحك في عليائها يا أحمد ..!
5/6/2007 التوقيع : مواطنة سورية