زلازل سورية في عهد البعث
زلازل سورية في عهد البعث
محمد الحسناوي *
إن انشقاق السيد عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية السورية السابق عن النظام الذي كان فيه أحد الأعمدة الرئيسة فيه طوال أربعين عاماً .. حدث مهم يعادل زلزالاً في التاريخ السوري وتاريخ الحزب الحاكم بالذات ، وفي توقيت شديد الحساسية والأهمية ، تعكسه حفلة ( الشتائم ) التي أقامها له ما يسمى مجلس الشعب ، وهي كلها ترتد بشكل أو بآخر على النظام نفسه بدءأً من مجلس الشعب الذي ظل ساكتاً على تجاوزات من اتهموه بالخيانة العظمى حتى لحظة (بصقه الحصوة من فمه ) منذ أيام ، ومروراً بالرئيس الذي يمسك بكل السلطات التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية من خلال تعيينه وعزله لأعضاء المحكمة العليا ونصوص الدستور، وهيمنة أجهزة القمع الثلاثة عشر، وانتهاء بالحزب الذي بات دريئة وحسب!
إن زلزال (أبو جمال) ليس الأول ولن يكون الأخير ، بفضل الحزب الحاكم وقدرته الهائلة على تفريخ الفضائح وإحداث الزلازل ، التي تكسر عظام الوطن السوري على مدار الساعة ..بدءاً من ظهور الجاسوس الإسرائيلي في 18/5/1964م، والمرسوم الجمهوري ذي الرقم /385/ في عهد الرئيس الأب القاضي بالعفو عن /23/جاسوساً إسرائيلياً ، ولم ينشر إلا في الجريدة الرسمية ، بتاريخ /5/2/1974م ، وانتهاء بمصافحة الرئيس الابن لرئيس العدو كاتساف العام الماضي على الملأ .
لو كان حزب البعث السوري ككل الأحزاب – وقد كان قبل انقلاب الثامن من آذار – وفي ظل وضع ديموقراطي ، لما أهلك نفسه وأهلك القطر معه ، باغتصابه السلطة ، بل الدولة والمجتمع حين وضع دستوراً ينص في مادته الثامنة على أنه قائد الدولة والمجتمع ، ومارس ذلك وبشكل أقسى من خلال القبضة القمعية ، وبات مسؤولاً عن كل صغيرة وكبيرة في المجتمع والدولة ، فسبق الستار الحديدي السوفياتي ولم يلحقه بالتغيير حتى الآن .
نقول لو كان أو لو ظل هذا الحزب مثل غيره من الأحزاب لما شعر أحد بوفاة ابن أمينه العام بحادث سير ، ولا بانتحار أعضاء كبار فيه ، أواغتيال بعضهم لبعض . لكن انتحار رئيس الاستخبارات عبد الكريم الجندي في /1/3/1969 ورئيس وزراء كالزعبي 1999م، وانتحار وزير داخلية كغازي كنعان 2005 ، وتجريد رفعت أسد أحد نواب رئيس الجمهورية طرداً من مناصبه ومن الحزب في 8/12/1988م ، واغتيال محمد عمران رئيس اللجنة العسكرية في الحزب ووزير دفاع سابق في عام 1972م ، وصلاح الدين البيطار أحد مؤسسي الحزب ورئيس وزراء سابق 21/7/1980م ... كل ذلك كانت له منعكساته على الشارع والمجتمع السوري ، وعلى الخط البياني القمعي الذي سار فيه المسلسل الانفرادي تسلسلاً هندسياً متصاعداً .
وهنا نستذكر ما يمكن أن يعدّ جواباً على سؤال المفكر الجزائري (مالك بن نبي) : لماذا تحولت اليابان بعد عشر سنوات من وقوعها تحت ظل الاستعمار الغربي من زبون على الحضارة إلى شريك ثم إلى منافس ، ولم يبرح العالم الإسلامي والعربي يعيشان مجرد (زبون) على مائدة الحضارة الغربية ، وقد وقعا تحت الاستعمار في التاريخ نفسه !! إنه التخلف ولكن بثوبه القمعي الاستبدادي ، وعبد الرحمن الكواكبي يكمل التفسير .
إن تاريخ سورية خلال العقود الأربعة الماضية – وهي كلها في عهد الحزب الحاكم – حافلة بأنواع من الزلازل السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية ، التي كان من ثمارها تصدع الجبهة الوطنية ، وسحق الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني ، وتخريب المدن بالمجازر الجماعية ، وانهيار الاقتصاد الوطني بالتأميم التعسفي ، والفساد المالي ، والنهب المنظم للثروات ولقوت الناس، وظهور المافيات المالية والأمنية ، وقوافل الشباب العاطلين عن العمل ، والهجرات الجماعية لذوي الطاقات ، أو التهجير القسري لآلاف المعارضين . وبالمناسبة نسمح لأنفسنا أن نستشهد بالشهادات الحضارية التي تبادلها وتداولها مؤخرأً أعضاء مرموقون (ممثلون ) للشعب في ( مجلس الشعب) بمناسبة انشقاق السيد خدام ، تشيب لهولها الولدان إن بقي من لم يشب بعد ، من بعضها السكوت على دفن (النفايات النووية) ، فمتى يتحدثون عن دفن الآلاف في المقابر الجماعية ؟ إنها وثائق تاريخية نطق بها ممثلو أحزاب الجبهة الحاكمة بحق نظام يرضعهم ويحتضنهم ، ولا شهادة أقوى من اعتراف الجاني نفسه في العرف القضائي .
من المجازر الجماعية التي اقترفت بحق الشعب المعترض على نظام الحزب الـ(القائد للدولة والمجتمع ) سحق انتفاضة مدينة حماة و(جامع السلطان ) عام 1964م والبطش بما يسمى (كتائب) محمد بالدبابات في (جامع بني أمية) بدمشق عام عام 1965م ومجزرة جسر الشغور 1/3/1980ذهب ضحيتها مئة شهيد ، ومجزرة سرمدا 25/7/1980 استشهد فيها ثلاثون ، ومجزرة حي المشارقة بحلب 11/8/1980 استشهد فيها مئة ، ومجزرة الحجاب في دمشق 29/9/1980م استشهد فيها عدد من المدافعين عن حجاب زوجاتهم وأخواتهم ، ومجزرة تدمر استشهد فيا ألف مواطن خلال نصف ساعة ، أما مجزرة حماة الكبرى عام 1982م فقد استشهد فيها أربعون ألف إنسان طوال شهر شباط من ذلك العام ، فضلا عن تهديم المساجد والكنائس والمعالم الأثرية التاريخية النادرة التي لم يهدمها الاستعمار الفرنسي . هل تفعل الزلازل الطبيعية بالشعب مثل هذا الفعل ؟
من المجازر الحضارية جداً موجات التسريح للكادحين الشرفاء من رجال التعليم ففي عام 1979م تم نقل /500/ خمس مئة مدرس ومعلم من التعليم إلى إدارات الدولة تعسفياً (مثل مكتب دفن الموتى) ، وفي 2/2/1980 تم تسريح /190/ مدرساً ومعلماً أيضاً . أما على مستوى الجامعات فقد تم تسريح /9/ مدرسين من جامعة دمشق بالمرسوم رقم /1249/ بتاريخ /20/9/1979م ، وتسريح /7/ آخرين من جامعة اللاذقية بالمرسوم رقم /1250/ في التاريخ نفسه . وهذا غير العلامات الإضافية التي تمنح للحزبيين والمخبرين وأعضاء الشبيبة وبقية الطفيليين العاطلين عن العمل . ثم يسألونك لماذا هذا الانهيار في العلم والأدب والحياة العامة ؟
أما مؤسسات المجتمع المدني فقد عانت هي الأخرى من مجازر خاصة بها مثل حل نقابات المهندسين والأطباء والمحامين دفعة واحدة ، واعتقال وفروعها في كل المحافظات في/9/4/1980م واعتقال أعضاء مجالسها ، ثم افتعال نظم داخلية لهذه النقابات ، وتعيين مجالس ومؤسسات قسرية لها حتى يومنا هذا ! ومن الظلم والسخرية المرة أن الحزبيين الكبار الذين تم فصلهم مؤخراً من (قيادات الحزب الحاكم) أو ماتوا ، صرفت لهم (نقابة المحامين) رواتب تعويضية أو تقاعدية ، وهم لم يمارسوا المحاماة يوماً واحداً ، فما هذه العدالة ؟ ومن أي الزلازل يعد هذا ؟
أما عن الجيش والتصفيات الفردية والجماعية ، أو إفساده بالموبقات ، وبالطائفية والمحسوبية والتصفيات الفردية والجماعية ، فحدث ولا حرج ، نكتفي بالإشارة إلى تسريح /150/ ضابطاً بتاريخ /7/6/1964م تعسفياً ، وإلى طرد /16/ مهندساً عسكرياً من الدورة /124// بتاريخ 18/8/1908م ، وإلى نموذج من مسلسل الإعدامات وهو تنفيذ حكم الإعدام بثلة من خيرة أبناء سورية العسكريين والمدنيين عددهم /11/ مواطناً بما فيهم عالم الفيزياء النووية الدكتور حسين محمد حسين في عرطوز- دمشق بتاريخ 5/7/1980م ، ويسألونك لماذا لم تحرروا الجولان حتى الآن ؟؟ أو لماذا سقط الجولان أصلاً ؟ ولماذا لم تجرِ محاكمة للمسؤولين عن سقوطه حتى الآن ؟
فهل تحدث السيد عبد الحليم خدام وأعضاء مجلس الشعب عن كل هذه الأمور ، أو سوف يتحدثون في (الماراتون)القائم ، أو في الفرص القادمة ، وقد فتحوا الباب وقالوا الكثير الكثير مما كانت تقوله المعارضة وما من سميع .
يروي السيد خدام روايات تلمس الجرح الغائر مثل غضب الرئيس الابن على المرحوم الحريري (لأنه يجمع طائفته من حوله ) والحقيقة أن الحريري حاز على رضى الأطراف اللبنانية جميعا ، وأفاد طائفته كغيرهم على الطريقة اللبنانية وزيادة ، فقال له أبو جمال : كل السياسيين اللبنانيين يجمعون طوائفهم من حولهم مثل جنبلاط مع الدروز، وفضل الله مع الشيعة ، والجميّل مع المارونيين ، فلماذا الاستنكار على الحريري وطائفته ؟ أليست هي الكلمة التي أودت بالشيخ الدكتور صبحي الصالح التي قالها للرئيس الأب قبل اغتياله بأيام ، ولكن (حمزة لا بواكي له ) !! والشهيد الشيخ المرحوم حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية ، ما جريمته غير دفاعه عن ( طائفته) التي هي ركن أساس في بنيان الوطن المقاوم للشرذمة والصهينة والاستبداد على حد سواء ؟
قبل المقابلة التي أذيعت للسيد خدام كان هناك سجال حول حقيقة الدور الذي يلعبه الرئيس الابن في النظام الذي هو على رأسه ، بمعنى : هل يملك القرار ، أم يتقاسمه مع (بارونات) الأجهزة الأمنية وقادة الفرق العسكرية ، أو لا دور له يذكر . أما بعد المقابلة – وقد شهد شاهد من أهله – فقد ترجح انفراد الرئيس بالصلاحيات أو بالقرار بنص الدستور وبواقع الحال ، وسوف يغير كثير من المعنيين سياساتهم ومواقفهم بناء على هذه المعلومة . وهذا بعض من معطيات الزلزال الجديد . أما البعض الآخر ، فهو ما لم يقله السيد خدام ، ولعله يسطره في مذكراته التي خرج من أجل تدوينها . وهي خطوة أخرى لو خطاها على هذا المنوال لفتحت له قلوب أبناء شعبه المسحوق ولدخل التاريخ من أبوابه العريضة . كما نأمل أن يكون انحياز السيد خدام عن النظام حافزاً للآخرين من بقية المتململين والناقمين من أركانه أو الساكتين على مضض أن يقتدوا بأبي جمال ، وأن يعينوا أنفسهم وشعبهم على (الخلاص ) السلس من هذا لوضع الكارثي (للدولة والمجتمع ) على حد سواء .
عن الجانب العسكري لم يستفض أبو جمال معللاً ذلك بأنه لم يكن على صلة مباشرة بالجيش إلا من طريق الرئيس وبعض الصلات الشخصية ، ولعله ترك الفرصة لأصحاب العلاقة ، الذين يتوقع انحيازهم وإكمالهم المسيرة التي اختارها بملء إرادته ، وعلى هدي الإصلاح والإنقاذ للقطر قبل فوات الأوان .
وبالمناسبة نحن نثني على موقف المعارضة السورية التي تفهمت مواقف السيد خدام ، وأعلنت على لسان مسؤوليها في (إعلان دمشق ) أن الباب مفتوح لكل من ينحاز من الحزب أو النظام للمعارضة من أجل التغيير الديموقراطي . وهذه كلها مؤشرات على اقتراب الفجر السوري وعودة (ربيع دمشق ) ، والخلاص من الزلازل إلى الأبد .
* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام