حتّى الشيخ الفاني
هيثم المالح!!!!
م. غسّان النجّار
نقابي – إسلامي
" لا تقربوا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً ولا راهباً , ولا تقطعوا شجرة .............."
هذه هي تعاليم الإسلام , وصية ٌبل هي أمر ٌ أنفذه أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب إلى جنوده الّتي انطلقت لتحرير الجزيرة العربية من الاستعمار الفارسي والرومي وتبليغهم رسالة التوحيد .
فماذا فعلنا نحن ؟؟!!
اعتقلنا الفتى اليافع مصعب الحريري ابن الخامسة عشر ربيعاً من حوران وحكمنا عليه بالإعدام قبل أن يخفف الحكم !!
فداء الحوراني المرأة المثقفة من مدينة حماه الباسلة حكمت بالسجن ثلاث سنوات !!
مهنّد الحسني رئيس منظمة حقوقية تعنى بحقوق الإنسان أمام محكمة الجنايات بتهمة نشر أخبار كاذبة !!
عبد الرحمن الكوكي عالم من علماء المسلمين السوريين , لا يعرف مصيره وتتساءل المراكز الحقوقية عن مصيره , وتتوجّس أن يناله الأذى والتعذيب ؟؟
هذه أمثلةٌ وغيرهم كثير لا نستطيع أن نحصيهم , لكننا الآن أمام واقعة جديدة عجيبة بل مذهلة :
هيثم المالح , شيخ من دمشق وابن عائلة سليلة,يقف الآن أمام المحكمة العسكرية بتهمة نشر أخبار كاذبة !! عقوبتها : ثلاث إلى خمسة عشر سنة !!
وإذا كان هيثم المالح شيخاً في الثمانين من عمره , فهو شيخ الحقوقيين أيضاً , لديه عزيمة الشباب ومضاء وعقل وحكمة الشيوخ , لم تنل منه المحن والفتن , ولم تفتَّ في عضده المضايقات والسجون .
تتبعتُ سيرة هذا الرجل العملاق, وهو صديقي ورفيق دربي وصاحبي في سجني ؛ في مركز تحقيق الشيخ حسن وسجن القلعة والسجن المركزي في عدرا , هكذا كانت أولى معرفتي به عام 1980 , يكبرني بضع سنين , فأنا قد طعنت في الثانية والسبعين من عمري وهي تعادل خمساً وسبعين سنة هجرية , وقد توفي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الثالثة والستين سنة هجرية , فأين نحن منه ؟؟, وأي شيءٍ نأسف عليه بعد هذا العمر , وأية حياةٍ بقيت لنا كي نحزن عليها والأخيار ُيتخطفون من حولنا .
بل ماذا بقي لنا من متاع الدنيا وسقط الحياة في ظل هكذا قمعٍ ٍوخنقٍ ٍوأثرةٍ في السلطة وفسادٍ في تصريف الحكم بين الناس .
1— في الخمسينات كان هيثم المالح مرافق أستاذه الدكتور مصطفى السباعي , يقدّم محاضراته وندواته . 2-- في الستينات كان هيثم المالح رفيق درب الداعية الإسلامي عصام العطّار ولقد كتب عنه الأستاذ العطّار مؤخراً مقالتين في صميم الموضوع.
3---صديقه العلاّمة الشيخ جودت سعيد,يزوره في مكتبه دائماً,وقد وقّعّا سويّة وثيقة " إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي " .
هيثم المالح ؛ينتمي للمدرسة الإصلاحية الإسلامية الوسطية المعتدلة,وإن كان له تحرّك استقلالي فهو الآن عميد التيار الإسلامي الديمقراطي المعتدل في الداخل السوري,ينافح عن الحريّةوالديمقراطية في أبهى صورها وعن الأخلاق والقيم والفضائل في أعظم مقاصدها,يرفض الإستقواء بالخارج من أجل التغيير والإصلاح .
هو شابّ – لا كالشباب – يسابق الشباب في حماسته واندفاعه وشجاعته فيسبقهم جميعاً .
هو شيخ – لا كالشيوخ – ممتلئٌ علماً وثقافةً وحيوية وحكمة , لا يخشى في الله لومة لائم .
عرفته سبع سنوات في السجون , وكنّا نعدّ فيها عشرون شخصاً من نقابتي المحامين والمهندسين السورية .
إذا تكلّم جهوري الصوت , ذات نبرة حادة جادّة تعبّر عن آلام مكنونة في صدره وعزّة وأنفة في محيّاه .
هيثم المالح ؛ من أسرة عريقة في دمشق , عَلََمٌَ من أعلام الأمّة , رائدٌ من روّادها , والرائد لا يكذب أهله ، فكيف توجّه إليه تهمة " نشر أخبار كاذبة " وهو مافتئ يردد ( إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله ) , لا يعرف النفاق , ويتكلّم دون مواربة أو رياء.
كان سريره قبالة سريري في سجن عدرا وكان بجانبي سرير الشيخ سليم المصري من حوران وقد توفي في السجن وأمام ناظري بذبحة صدرية واحتشاء عضلة قلبية لم تمهله دقائق بسبب الإجهاد النفسي الشديد الّذي تعرّض له .
مرّت علينا أيامٌ عجافٌ في سجن عدرا , وقد تقرّحت أبداننا من البرغل المسلوق , فأشفق علينا خدمة المطعم (الباحاتية) فعرضوا علينا أن يهرّبوا البيض من حساب السجناء الآخرين , لكنّ هيثم المالح انتفض غاضباً رافضاً أن يأكل غير ما يأكل الآخرون من السجناء السياسيين , ولقد قررتُ يومها الإضراب عن الطعام احتجاجاً على هذه المعاملة السيئة , فكان هيثم المالح يقف عند سريري يواسيني ويرفع من معنوياتي حتى أشرفتُ على الهلاك , فاستدعاني رئيس قسم التحقيق في الأمن السياسي العقيد أمين العلي وهددني بإرسالي وزملائي إلى سجن تدمر , فاستعصمت وقلت له دونكم رقبتي تفعلون بها ماتشاؤون , ويأذن الله أن يُفرّج الكرب وتتحسّن المعاملة ويسمح لأهلينا بإحضار الطعام أثناء الزيارات .
خرج هيثم المالح هو وزملاؤه المحامون من السجن قبلنا بعدّة سنوات وذلك بوساطة من إتّحاد المحامين العرب حيث اشترطوا عقد مؤتمرهم في دمشق مقابل الإفراج عن المحامين السوريين , خلافاً لإتّحاد المهندسين العرب الّذي لم يدافع عنّا – نحن النقابيين – كما ينبغي فمكثنا في السجن إثني عشر عاماً .
لم يسترح هيثم المالح بعد خروجه من السجن لحظةً واحدة وتابع مسيرة الحرّية والدفاع عن المستضعفين فكان يتوكل متطوعاً عن سجناء الرأي أمام المحاكم دون مقابل , حضر إلى مدينة حلب مرّةً كي يستفسر عن إحدى العائلات المقطوعة , فقدت معيلها لا تعرف مصيره .
كان يقف بكل جرأة أمام المسئولين الأمنيين, يجادلهم ويحاورهم في كل مرّة في مسألة سجناء الرأي وقانون الطوارئ وقضيّة الديمقراطية وحرية الفكر والرأي وكان يطالب بإلغاء القانون 49/1980 في كلّ مناسبة.
لكنّ الأجهزة الأمنية ضاقت به زرعاً فوقفت له بالمرصاد , ترسل عناصرها تقف أمام مكتبه كي تخيفه وترصد كل حركةٍ له وزائريه , قال لي مرّةً : إنّ الدولة تحاربني في رزقي وذلك بتخويف الناس من الحضور إلى مكتبي كي لا أتوكّل عن أحد من أصحاب القضايا , بل حتّى المحامين الناشئين يخشون أن يتدربوا في مكتبي .
باع هيثم المالح كلَّ ما يملك وأنفقها في الشأن العام ولم يبق لديه سوى شقّته الّتي يسكنها وسيّارته من موديل الخمسينات , فهو لا يملك مالاً كي يجدّد سيارته .
كلّما زرت دمشق كان يُصرّ أن أبيت عنده في بيته ويستضيفني على طعام مائدته, إنّه رجلٌ صريحٌ شهمٌ كريم, لقد رشقوا باب مكتبه بالأقذار وكسروا زجاج نوافذه , أشفق عليه أحد الحرّاس الأمنيين مرةً وقال له : لا تؤاخذني يا أستاذ ! إنّه مطلوبٌ مني أن أسجّل جميع حركاتك وزوّارك , فأجابه :لا عليك! إفعل ما تؤمر وإذا أردت أن تستريح في مكتبي فلا بأس عليك .
كان هيثم المالح لا يكلّ عن مهاجمة سياسة الولايات المتّحدة تجاه العرب والمسلمين ورفض مرةً دعوة حفل استقبال أقامتها السفارة الأمريكية في دمشق احتجاجاً على الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين ومرتفعات الجولان , كان يعارض سياسة الحصار على سوريا من قبل الغرب وأمريكا ويعتقد أنّ ذلك يضرّ بالشعب السوري قبل أن يضرّ بالنظام , كان وطنيّاً شريفاً بكل معاني الكلمة .
كانت قضايا الوطن والتوغل الخارجي والحرّيات وحقوق الإنسان في الداخل هي الّتي تشغل باله وحياته .
يقول في مقدّمة كتابه : (حقوق الإنسان بين التعذيب وحالة الطوارئ ) .
" إنّ مشكلتي لجهة حقوق الإنسان واحترام الإنسان , مشكلةٌ متأصلةٌ في نفسي , وبين الفينة والفينة ينتابني شعورٌ قويٌ لكي أستمرَّ متأصلاً في هذا الإطار , رُغم كبر سنّي وشيخوختي الّتي من المفروض أن تدفعني باتجاهٍ آخر هو اتجاه الراحة أو الإعتكاف بين أشيائي وكتبي الخاصّة , إلاّ أن ّ هذا الموضوع أضحى يسري في عروقي تماماً كما تسري المخدّرات في عروق المدمنين , فلا أجد فِكاكاً فيما نذرت نفسي له , سائلاً الله عزّ وجل أن يمنحني القوة والعزم لكي أجِدَّ السيرَ حتّى النهاية ".
مُنِعَ من مغادرة سوريه لحضور منتديات حقوق الإنسان في الخارج منذ عام2004ولا يزال ممنوعاً من السفر لغاية تاريخ اعتقاله,ومن الحفلات الرسمية الّتي دُعِيَ إليها فتعذر عليه حضورها بسبب المنع من السفر:
1-حفلة في قصر الإليزيه في باريس بناءً على دعوة من رئيس الوزراء الفرنسي لحضور حفل استقبال بمناسبة مسابقة أعلنتها اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا , تقدّم فيه بموضوع عنوانه : "من التعذيب إلى منع التعذيب " وذلك بتاريخ 8/12/2004 .
2-حفلة منتدى لاهاي الدولي في هولندا حول المدافعين عن حقوق الإنسان في 10/12/2009.
3-حفلة جائزة المقاومين من مؤسسة خوزين فير زيت الهولندية لعام 2006 وقد حصل عليها حيث اشترك بالحفلة وألقى كلمة بالحفل عن طريق الهاتف واستلم ابنه ( إياس ) الجائزة بالنيابة عنه.
وفي الحفلة الّتي أُقيمت على شرفه في حفلة السفارة الفرنسية في دمشق أثناء تقديم الميدالية له,ألقى كلمة جاء فيها : " أنني أسجّل هنا أسفي لعدم تمكّني من تلبية دعوتكم ودعوة منتدى لاهاي المتعلق بالمدافعين عن
حقوق الإنسان وتمثيل بلدي وأنا الحريص على ذلك بالشكل الّذي يليق بي ويليق بعاصمة مثل دمشق أقدم عاصمة للحضارة في التاريخ يوم كانت رقعة الدولة الإسلامية تمتد من الصين إلى الأندلس"ثمّ ختم كلامه قائلاً ( لقد تعلّمنا من رسولنا الكريم محمّد صلى الله عليه وسلم أن نطلب الحكمة والعلم وإن بُعدت بلدانها ونحن نطلبها عندكم فأنتم قريبون منّا ) .
والآن لماذا هيثم المالح أمام محكمة عسكرية وهي نفس التهمة الّتي وُجهت إلى "رموز إعلان دمشق"أمام محكمة الجنايات المدنية من نشر أخبارٍ كاذبة , فلماذا هيثم المالح على وجه الخصوص أمام المحكمة العسكرية وهو شخص مدني وليس عسكري , أغلب ظنّي أنّ وكلاء الدفاع سيطعنون في اختصاصها , لقد أُُعتقل هيثم المالح في14/10/2009من قبل الأمن السياسي فكيف تحوّل إلى التحقيق العسكري والمحكمة العسكرية؟,سؤال لم يجب عليه أحد حتى الآن !! إنني أعتقد أنّ سبب تحويله إلى محكمة عسكرية أنّ القاضي المدني سيجد صعوبة مسلكية في محاكمة شخص مثل هيثم المالح شغل منصب القضاء والمحاماة لمدّة تربو على خمسين عاماً , كما أنّ الأصدقاء والمحبين والزملاء ورجال المعارضة سيزحفون بالآلاف لحضور جلسات محاكمته , بينما المحكمة العسكرية ستفوّت عليهم ذلك بمنع المواطنين من حضور جلسات المحاكمة .
إنّ تركيا الصديقة تحاكم الضباط العسكريين أمام المحاكم المدنية ونحن نحاكم المدنيين أمام القضاء العسكري , ليتنا نقارب تركيّا في ديمقراطيتها وكذلك مشروعها في حل المسألة الكردية ونقتبس منها تعاملها مع مواطنيها.
إنّ هيثم المالح يكفيه فخراً أن قد سُرحَ في زمن البعث عام 1966 هو ومجموعة من جهابذة القانون والقضاء وعلى رأسهم العلاّمة القانوني المستشار عبد القادر الأسود رئيس محكمة النقض من مدينة حلب والداعية المفكّر القاضي الشيخ علي الطنطاوي والقاضي برهان الاسطواني من دمشق وغيرهم إثنان وعشرون قاضياً وذلك بموجب مرسوم تشريعي برقم 40 /1966 الصادر عن رئيس الدولة نورالدين الأتاسي ورئيس الوزراء يوسف زعيّن , يجيز صرف قضاة من الخدمة خلال أربع وعشرين ساعة فقط وبدون تعليل ودون أي سبيل من طرق الطعن .
لقد سبق أن كتبت مقالاً يوم اعتقال المرأة الحموية الشجاعة الدكتورة فداء الحوراني قلت فيه..(خذوني بدلاً عنها ), وذلك كي لا يقال أنّ المروءة والشهامة العربية انعدمت في سوريه حيث نسجن النساء , والآن أقول عن هذا الشيخ الثمانيني الجليل الهمام , القانوني الألمعي المقدام , أقول : ( خذوني بدلاً عنه ), فلقد طفح الكيل ؛ حيث نسجن الشيوخ من الوطنيين المخلصين الغيارى على الوطن والأمّة .
فهل عساي أن أتوجه بنداءٍ حار إلى العقلاء والناصحين في هذا النظام وعلى رأسهم السيّد رئيس الجمهورية قائلاً ؛ إنّ هذا الشيخ الجليل في عصمتكم وجواركم ولا تدرون كيف تتفاقم عليه أمراض الشيخوخة والمزمنة لديه وذلك في مهجعٍ يغصُّ بالسجناء القضائيين والمجرمين , وسيصعب عليكم إنقاذه في المستشفيات في اللحظة الحرجة لا سمح الله , إننا لا نتمنى أن تلصق برجال العهد جريمة بشعة – لا قدّر الله – ولو في ظل محاكمة بائسة لن تشفع لكم تمريرها , فإن أخذتكم العزّة بالإثم فلتكن محاكمته طليقاً أمام قضاةٍ مدنيين نزيهين , مشهود لهم بالعدالة , فإن هيثم المالح لا يخشى من محاكمة عادلة نزيهة , ومع ذلك أتوقع أن يستخدم رئيس الجمهورية صلاحياته المنصوص عنها في الدستور,فإن لم يستخدم الرئيس صلاحياته الآن فمتى تكون إذاًً ؟؟!
ألا هل بلّغت ؟؟ اللهم فاشهد , (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وأليه أنيب ).