عروبة العراق بين الكرد والفرس
عروبة العراق بين الكرد والفرس
د. محمد سالم سعد الله
استهل الإسلام تكوينه بتعرية كلّ الانتماءات الخارجة عن النهج الذي رسمه ، للوصول إلى رضوان الله تعالى ، والفوز بنعيمه ، والوقاية من عذابه ، وقد انطلق مشروعه في إصلاح الكون من جزيرة العرب بوصفها المكان الأمثل لحمل الرسالات السماوية ، فضلا عن موقعها الاستراتيجي الذي يربط شرق العالم بمغربه ، وقد وصف عزّ وجلّ هذه الأمة التي حملت رسالة السماء ونقلتها للشعوب العالمية كافة بقوله ـ وهو أصدق القائلين ـ : " كُنْتُمْ خَيرَ أُمّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ " (سورة آل عمران ، من الآية : 110)، ويكفي هذه الأمة فخراً ـ بعد وصفه سبحانه لها ـ أنّ الذي بُعث رحمة للعالمين ينتمي إليها ، ومنهـا نشأ ، وفيها ترعرع ، ولهذا كانت العروبة نبعاً شرعياً للإسلام ، ورافداً مهماً من روافد العطاء والنماء الإسلامي عبر امتداد قرونه ، وإلى أن يشاء الله تعالى .
إنّ مشروع الإسلام الممتد والشمولي منحه صفه الاتساع والانتشار ، والخروج من أُطر الأقلمة الضيقة ، التي تمتاز بها بعض التوجهات العقدية ، إلى ميادين العالمية والكونية ، نظرا لطبيعته الحيوية المرنة : الروحية أولاً ، والعصرية ثانياً ، المناسبة لكلّ زمان ومكان ، وانطلاقاً من هذا تشعبت الأجناس البشرية الداخلة في هذا التوجه العقدي ، ومن مختلف المشارب ما بين : فارسي وروماني وهندي وصيني وتركي وبوذي وملحد ونحو ذلك ، وللفرد الداخل في الإسلام من هذه التوجهات وغيرها يمتاز بحمله ـ في الغالب ـ ( حنيناً ) للمسار السلوكي الذي كان يعيشه قبل الإسلام ، وهذا الحنين مكنون في الأرشيف الجمعي للمجموع الذي وُلِد ونشأ بظلّه ، ويظهر هذا الحنين بين زمن وآخر ، حسب نوعية المثيرات التي يتعرض لها الفرد ، وحسب قوة إيمانه وتمسكه بالإسلام .
ويحمل لنا التاريخ صورا عدة من ذلك الحنين منها : ( حركات الردة في زمـن الخلافة الراشدة ، وحركات الشعوبية ، والأحزاب المتعددة في زمن الدولة الأموية ، وتوجهات البرامكة والبويهيين والترك في زمن الدولة العباسية ، ... إلخ ) ، ومن مفارقة القدر أنّ جلّ هذه الحركات والتوجهات كانت تنطلق من العراق ، أو يكون حاضنا لها !! ، ونجد في العصر الحديث حنينا شديدا لللاشعور الجمعي لبعض التوجهات السابقة في العراق المعاصر ، ويربط هذا اللاشعورُ الأفرادَ المعاصرين يميراث الآباء والأجداد ، محاولاً إحياءه ولو كان على حساب العروبة والإسلام .
إنّ ما يحصل اليوم في العراق منذ سقوط بغداد الثاني وحتى الآن ، هو إعلان صريح لثورة عارمة تجتاح عروبة هذا البلد الجريح وهويته الإسلامية ، على مسمع ونظر العالَمين : الإسلامي والعربي، ولا أحد يحرك ساكناً ، وسينتظر العرب والمسلمون لحظة الوقوف على الطلل ، ليقرؤوا بكائيات العندليب ، ويستمتعوا بأصوات النائحين والنائحات على ضياع العراق ـ أرض السواد ومهبط الأنبياء ـ وسنتغنى بمجدنا في العراق مستقبلاً ، بوصفه تراثا ولّى وانقضى ، كما نتغنى اليوم بميراثنا في الأندلس بعد ضياعها ، ومسخ هويتها العربية والإسلامية .
يستيقظ العراق اليوم وأبناؤه العرب المسلمون على أصوات صارخة ومزعجة ، تنادي كلّ يوم بمسخ هوية العراق العربية والإسلامية ومحوها ، وتدعو ـ علناً ـ بتحويل ملف العروبة والإسلام في هذا البلـد إلى رفـوف الزمن الهَـرِم ، الذي يقتـاد عليـه الجدل والإهمال والصمت ، وعندما يتم هذا ـ وسيتم لأنّ المسالة هي مسألة وقت ـ سيندم العرب والمسلمون على ضياع العراق ، بعدما ضاعت بالأمس فلسطين ، وقبلها الأندلس ، وسيتسبب سكوتهم هذا بضياع المزيد ولا مجيب ! .
لقد تُرِك العرب المسلمون في العراق المعاصر بعد سقوط بغداد الثاني ، يواجهون مصيرهم المتأزم ، من خلال التصدي لحملات فرض هوية ( الكرد ) من جهة الشمال ، وهوية ( الفرس ) من جهة الجنوب ، وكلا الهويتين تمتلكان إرثاً غير سويٍّ مع الإسلام والعروبة ، ويحملان ضغينة تاريخية لا هوادة فيها تجاه كلّ ما هو عربي وإسلامي ، والمتفحص للتاريخ يدرك حقيقة ذلك ، ويعلم جيداً أنّ التوجهين السابقين يقتنصان أي مناسبة لتغليب التوجه على العقيدة ، وهنا يكمن الخطر .
وتتجه الحقيقة الآن في العراق إلى إفلاس مقصدية الشارع العربي المسلم ودعواته ، تجاه العرب والمسلمون ، لأنهم ـ أي العراقيون ـ لا يرجون خيراً من دول باعت جسدها بالمجان ، وأعطت ثرواتها دون ديّان ، ومنحت أرضها وأجواءها للنيران والعصيان ، وسينادي العرب يوماً ولعلّ هذا اليوم قريب : ( أُكِلتُ يوم أُكِل الثورُ الأبيضُ ) ، والسبب في ذلك أنّ العرب الأكارم قد استبدلوا بغداد بننانسي ، ونسوا جرح الموصل النازف من خلال متابعة السوبر ستار ، وتخطوا مسح الفلوجة عن جغرافية الأرض عن طريق لقاءات شرم الشيخ ، وعجزت أموالهم عن رعاية اليتامى ، وإيواء الأرامل ، والتخفيف عن الثكالى في النجف وكربلاء والرمادي وتكريت وسامراء ، ممن أُستشهد أبناؤهم دفاعا عن البلد والعرض والدين ، لأن هذه الأموال ذهبت لدوري الصداقة والمحبة ، ولمساعدة منكوبي إعصار كاترينا المساكين ، ولإنقاذ نادي ( مانشستر يونايتد ) الإنكليزي من الإفلاس والخروج عن الدوري ، ولأنهم شاركوا في ترميم حديقة حيوانات في لندن ، عطفا عليها ، وحفظاً لها من الإصابة بالزكام!.
إنّ صمتكم سيتحول لعنة عليكم ، وإنّ موقفكم المتخاذل هذا سيمنحكم الذلّ والهوان ، لا سيما وأنّ السيل سيصل إليكم عاجلا أم آجلا ، والفطن من اتعظ بتجربة غيره ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .