بأي حق يغتالون الصداقة
بأي حق يغتالون الصداقة
منهل السراج
إذا كنت أكتب فلأن أحداً ما ممن يقرأ سوف يصبح صديقي، سترمش عيونه مع صفحات كتابي ويبتسم. فلماذا وبأي حق يغتالون هذه الصداقات ولِمَ أصر الرقيب على إرباك خطواتي في تجربتي الأولى مع الرواية؟ أعترف أنني حين كتبت لم يكن حاضراً ولم أتذكره وكنت مشغولة بإيجاد مكان للغتي، لكنه كان ينتظر الطريدة كي تكون في مركز المربع فيصيب هدفه ويشتغل فلا جدوى من وظيفته إن لم يفعل.
أما آن له أن يتقاعد؟
فطمة التي شربت المدينة بعصيانها. نشأت وسط صراعات، بنتاً ترقب الطائرات من أعلى الشجرات مستمعة لتلميحات الصبيان. تقيس كل صباح طول قامتها بطول نخلتها. أحبت في الثامنة عشرة، مختارة بكل بساطة من ينتمي إلى جماعة الطرف الآخر، جماعة "أبو شامة". تشهد سقوط الشاب مقتولاً على درج لقائهما وبقعة دم تسيل عن شفته. لا تذكر إن كان قاتله من جماعة عمها أم من جماعة خصمه، فهي لا تدين أحداً. وبعد سنين من الانتظار اختارت زوجاً من النازحين إلى مدينتها لأنها وببساطة أحبت أغاني البيارات ودندنة العود وابتسامة الرجل التي تذكرها بابتسامة أبطال روايات يوسف السباعي. حملت ثمرة الزواج قطعة لحم صفراء فتركت بيت الزوج ورائحة غسيل ابنها قبل أن يكفن ويدفن، وعادت إلى البيت الكبير لتنشغل مع أهله بأحداث عنيفة، قتل وتدمير وتعذيب وغياب. تشهد انهيار كل الصروح وتشهد ذل المدينة ثم تبقى لتتحمل التراجع وقبض التعويضات. يموت أبوها، وأم الحب المربية التي لم تعرف دينها، تتوالى الخيبات عبر علاقات عاطفية تنتهي بأن تحلم بإخصاب رحمها بلا شريك.
تأتي هذه التداعيات عبر صندوق الجدة وقبو القبو وأشياء الغائبين، دفاترهم، كتبهم، بيجاماتهم وسائدهم، ضفة النهر والبيت الكبير.
بقيت وحدها تزرع وتعالج وترمم، في بيت عتيق بنوافذه و واجهته ومزروعاته وأدراجه وخلفيته التي تتماهى مع ضفة النهر. تطبخ كل يوم ما يكفي عشرة كي تطعم لميا المجنونة، التي لم تكن مجنونة، والمؤذن أبا رحمون، وبعض الجيران. تحاول صابرة فهم ممارسات الجرذ الذي لم تستطع مقاومته، وانتظار أخيها أحمد الذي أخذوه مبللاً ثيابه ببوله.
من خلال زمن الجرذ تتداعى الذكريات نزقة مدوّخة مثل طيور حديقتها لتنتهي بمرض السرطان في الغدة الدرقية. تبقى، وقبل أن تزفر حياتها وتوصي لميس ابنة أختها، أملها، تهذي بالأحداث التي ارتكبها رجال أبي شامة في حارتها.
تستلقي كما ينبغي لنهر بجانب قلعة المدينة.
وتنتهي حكاية فطمة بفصل لم يكتب بعد، فصل يتحدث عن روايتها التي ختمت بأختام الممنوع.
كنت قلقة فيما روايتي الأولى وهي بعنوان "المد" بين أيدي لجنة القراءة، قلقة على اللغة، على الإبداع، على الفن. لكن ما حدث أن الرأي الأول اقتصر فهمه للرواية على أنها مكتوبة بلغة الرمز لتؤرخ لحقبة ما من تاريخ مدينة .. والثاني حذا حذو الأول مستدركاً بـ " قـد " التي تفيد الاحتمال و أضاف أن باقي الدلالات الفكرية للرواية مقبول ثم يأتي الرأي الثالث ليعطي رأياً حيادياً فيما يخصّ الوعي الفكري لطبيعة الحياة و الموضوع المقترح.
حملتها بيدي من اتحاد الكتاب إلى وزارة الإعلام مع تقارير القراء الثلاثة اثنان أكدا الرفض و واحد اكتفى بإعطاء رأي إيجابي عن القيمة الفنية للرواية. أقول حملتها عبر النفق الفاصل، وكنت آسفة.. آسفة جداً.
أقول أسفت أكثر حين قال أحدهم: لمنع روايتك فائدة كبيرة لمستقبلك الأدبي.
إذ لم أسع لذلك.
الصدق لم يكن يوماً ذنباً، هو محرج، صحيح، لكنه الواقع مهما حاولنا طمر رؤوسنا.
كان آخر هم لي هو السياسة، أو التنظير أو الإشارة.
هل يمنع السؤال؟
لصالح من كل هذا الجنون كل هذا الخراب إلى متى نستمر في نفي بعضنا وإلغاء الحوار.
كنت أنوي التحدث عن فطمة المرأة التي بعد عمر من العصيان انصرفت لسجادة الصلاة وتنظيف فضلات الطيور عن مزروعاتها ومحاولة تربية جرذ البيت وإعداد الطعام. كيف انفلتت مني؟ وكيف تعالت واستطالت حتى احتملت كل ما احتملت. أنا لا أعرف. ربما صار لدي دراية في الكتابة. لكني لا أعرف الحديث عن هذه الدراية. فهذا سر أظن، رزحت تحت وطأته الجميلة إلى أن أنزلته عن نفسي رغبة مني أن يحملها أصدقائي الذين سيقرؤوني وليس وراء هذا إلا المحبة الخالصة.
شقت فطمة دروباً، حلقت، حفرت في ذاكرتي ودياناً وقذفتني، صعدتُ في أحيان ولهوت في أحيان، وبرغم قسوة النبش وآلام الخلاص، مضيت وراءها مغمضة العينين فتعلمت منها الكثير.
لم ترفض فطمة أحداً حتى جرذ البيت لكنهم رفضوا أن تُقَص حكايتها.
لست مؤرخة كما لست عضواً في تنظيم معارض. همومهم وهمومي قادتني كي أكتب ما كتبت. لم أنو التطرق لمواضيع تثير حساسية أحد، ومازلت، وسأمضي بالكتابة فيما يؤرقني سعياً وراء الجمال وجمال الإنسان والحياة.
ـــ
ملاحظة:
هذه الشهادة نشرت في مجلة الآداب اللبنانية في ملف خاص بالرقابة في سوريا. ورواية "المد" هي نفسها رواية "كما ينبغي لنهر". ظلت في الأدراج حتى تسنى لها فرصة النشر بفوزها بجائزة دائرة الثقافة في الشارقة لعام 2002.