بوح الحرية.. ما بين بيروت ودمشق
بوح الحرية.. ما بين بيروت ودمشق
عبد الله زنجير
على جسر التحولات البازغة في أرض الأرز، لا مساحة للانغماس أكثر بإحساس الفشل وتسويق المواجع، فكلنا في الهمّ.. شام
جوهر القضية أن الثقافة أمست بمسيس الحاجة، للتذكير بقيم الحرية والحق والخير، بعيداً عن تبادل ألفاظ النخوة وأدلجة حوادث الدنيا وأفكار المراوحة والاجترار. فالمخاطر التي نواجهها تستدعي النقد الذاتي من ناحية، واستشراف شروق وشروط الحراك الحي من ناحية مقابلة! وبالضرورة يبرز الاستبداد كأحد أسوأ أمراضنا الحضارية، بل هو مثل الإيدز -نقص المناعة المكتسبة- الذي يؤهلنا لكل صنوف التقهقر والتراجع والموت السريري، سواء في الآداب والفنون أو السياسة والاجتماع أو العلمانية والأخلاق.
وعلى عكس ذلك، تبدو (الحرية) توازناً بين الأضداد، وتناغماً بين المختلفات، وتآلفاً بين الجمال والمنفعة، وتجانساً بين الروح والمادة وتكاملاً بين أفراح الفن وأوزانه. وما حصل في لبنان من إطلاق لسراح الطاقات الخلاقة بهذا التسارع والتشكيل، يجعلنا مطمئنين لقدرتنا على إحالة العوائق إلى وسائط، وأن نتخذ من الضرورات أدوات للحرية..
وإذا كانت الطبيعة – كما يقول العقاد – تخضع لقانون عام لا يتعارض مع حريتها. فإن الإسلام أيضاً لم يتوسل من أجل الوصول لأهدافه العظمى، غير سبيل الحجة والبرهنة وفتح نوافذ التفكير والتغيير ونبذ التجبر والجبرية. وهكذا فإن آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن فعل العقل والتعقل هي تسع وأربعون آية. وآياته التي تحدثت عن القلب، ومن وظائفه التفكير والتعقل تبلغ مائة واثنتين وثلاثيين آية. ولقد ورد الحديث في القرآن عن اللب بمعنى العقل لأنه جوهر الإنسان وحقيقته في ستة عشر موضعاً. وجاء الحديث فيه عن (النهى) بمعنى العقول في آيتين. أما التفكر، فلقد جاء الحديث عنه بالقرآن في ثمانية عشر موضعاً. وجاء الحديث فيه عن الفقه في عشرين موضعاً. وجاء حديثه عن (التدبر) في أربع آيات وعن (الاعتبار) في سبع آيات. وعن (الحكمة) في تسع عشرة آية.
وكان الفتح الإسلامي، خصوصاً في القادسية واليرموك، منزهاً فيما نعرف عن فرض ميتافيزيقيته ورؤيته للإيمان على أي مخلوق، وهذا من أسرار رسوه وبقائه!
وفي القرن العشرين سقطت الخلافة العثمانية أو الرجل المريض، لسببين لا ثالث لهما: الاستبداد الداخلي ابتداء، والاستعمار الخارجي انتهاءً. وهذا ما أودى بالإمبراطورية السوفيتية، وغيرها من تيارات ومذاهب شوفينية وفاشية وكهنوتية، توسلت وتوسدت بالظلم الذي حرمه الله على نفسه وعباده، فلم تصل أو تحصد أو تحصل.. وليت منظري حزب البعث في العراق وسورية، استفادوا شيئاً ليس من قراءة التاريخ وحسب، وكيف تزدهر وتسقط الدول والممالك، بل من مرارة تجربة الوحدة (1958) التي فتنت الناس وفوتت الفرص، ولا نزال ندفع ضريبتها إلى اليوم. إذا لما أقدم الأول على ضم الكويت، ولما أقدم الثاني على عصر لبنان. إلا أن للتخلف أحكاماً، وللبصاصين فلسفتهم القصيرة والرخيصة..
لقد صاح الديك هذه المرة من شط بيروت: حيّ على الفلاح حي على الفلاح ليؤكد لا على تخريب العلاقات والوشائج اللبنانية السورية، إنما على صيانتها وصلاحيتها ودمائيتها لا دمويتها. وأهلنا في لبنان الحب والجمال هم جزء أصيل من نبضنا ونضالنا وهويتنا وهوانا، وما أصلحه الدهر لا يفسده العطار. وبوح الحرية الذي يرتد صداه الآن على جنبات قاسيون، هو حبل النجاة الوحيد لجميع السوريين رعاة ورعية. والغايات العريضة المتداولة سراً وجهراً في شوارع بيروت ودمشق، والعائدة مع شراع السفينة التي طال اغترابها، إنما تتطلب الالتفاف والالتفات أكثر نحو المبادئ والمعالم والمعاني وليس التمادي بالأنانيات والنزعات والنزاعات. فلا مستقبل ولا مستنفذ لبلادنا الغالية، بغير قيم التسامح والمصالحة والتوافق والتراضي والشراكة والاعتدال والوحدة الحقيقية النابعة من القلب. ولن يكون حب بالإكراه ولا زواج بالاغتصاب.
إن حقوق الإنسان هي بورصة اليوم وبصمته، والحرية هي فجر تلألأت خيوطه والديمقراطية بديل سورية وأمانها وحضورها المنتظر. والماراثون العالمي لا يكتمل بغير حذاقة الشامي وشطارته وشغله، ودأبه وآدابه وبديعه.
آخر البوح:
يقول طاغور (لماذا خبا المصباح؟ لقد أحطته بردائي لأقيه من الريح، لهذا خبا!
لماذا ذبلت الزهرة؟ لقد ضممتها إلى قلبي بقلق وحب، لهذا ذبلت.
لماذا جف الغدير؟ لقد اعترضت مجراه بالسدود ليكون لي وحدي، لهذا جف.
لماذا انقطع وتر القيثارة؟ حاولت أن أوقع عليه لحناً يفوق طاقته، لهذا انقطع.