شكوى العربية
كان يحدّثني، وكنت أستعيده الجملة بعد الجملة، والكلمة تلو الكلمة، فسألني:
- هل سمعك ضعيف؟
- بل هو حديد.
- إذن.. لماذا تستعيدني الكلام؟
- لأن نطقك ضعيف.. لأنك تأكل الكلمات والحروف.. لأنك تنطق حروفاً لا أعرفها.
قال، وهو يبتسم ابتسامة غامضة:
- ولكني عربي، وحروفي عربية، وكذلك كلماتي عربية، بل أنا لا أعرف غير اللغة العربية.
وكذلك شأن كثير من المتحدثين، والمدرسين، والخطباء، لا تكاد تفهم ما يتفوّهون به، مع أنه، كما يزعمون، كلام عربي، ولكنه غير مبين.. حتى إن بعضهم يتلو الآية على مسامعك، فلا تعيها إلا إذا كنت حافظاً إياها، وكذلك الحديث النبوي الشريف، والبيت من الشعر، والمثل من الأمثال..
لماذا؟
لأن المتحدث بها، ينطقها بلا شفتين، وكأنه أفلح أعلم، مشقوق الشفتين، فلا يكاد يبين.
بعض الخطباء يأكل آخر كلمة من كل جملة، أو بعض حروفها، فيضيع عليك المعنى.. لماذا؟ لست أدري.
وبعضهم يأبى أن يحرك لسانه الحركة المجزية للكلمة والحرف، لتخرج الحروف من مخارجها الطبيعية.
وبعضهم لا يحرك فكّه الأسفل.
وبعضهم لا يحرك شفتيه، وكأنهما لم تُخلقا لأداء وظيفة الكلام على وجهه الصحيح، فلا تخرج الحروف من مخارجها، بل من مخارج مختزلة، مبتذلة، فيضيع المعنى، ويفوت المقصود، لموت الكلمات وهي تطيح في الهواء الطلق، أو في الجوّ الملوّث بالضجيج.
إنني أدعو خطباءنا، ومحدّثينا، ومدرسينا، وشعراءنا، أن يبادروا إلى:
- قراءة الكتب التي تعلّم التجويد
- وإلى قراءة الكتب التي تتحدث عن فن الإلقاء
- وإلى سماع الأشرطة التي ترشد إلى كل ما تقدم، وأنصح بقراءة كتاب (النطق السليم) وسماع الأشرطة المصاحبة له، وهي للفنان القدير الأستاذ صبحي أبو لغد –رحمه الله- ففيه وفيها علم نظري، وتمرينات تطبيقية يومية على حركة الفك –الأسفل طبعاً- وحركة اللسان، وحركة الشفتين، فالمواظبة على قراءة هذا الكتاب، والاستماع إلى تلك الأشرطة، يصقلان الحروف، فتخرج إلى الآذان السميعة لتشنّفها، بعد أن صقلتها التجارب والتمرينات، لتصطف في ميادين الإتقان والإبداع.
إننا نظلم لغتنا الجميلة، ونسيء إليها بتقصيرنا تجاهها، وبتشويه بعض حروفها.
وكما بدأت بحادثة، أختم بأخرى معبّرة لمن يقوى على الاعتبار.
التقيت مرة في مدينة إستانبول، أحد إخواني الأدباء الأتراك، الأستاذ الكبير علي نار، حفظه الله تعالى، فسألني:
- أين كنت؟
أجبته:
- في السوء (أعني في السوق)
فقال في انزعاج:
- حاشاك من السوء.
ثم قال:
- لماذا تفعلون هذا بلغة القرآن العظيم؟
وأنا أتساءل الآن معه:
- لماذا نفعل ما نفعل بهذه اللغة الجميلة؟
لماذا نسيء إليها، ونسيء إلى أنفسنا معاً؟
إني لأسمعها تشكو إلى خالقها العظيم:
"يا رب.. إني أشكو إليك قلة حيلتي مع الناطقين بي، وهواني على العرب الذين يسيئون إليّ، ويقصّرون تجاهي، وأنا لغة قرآنهم، ولغة إسلامهم، ولغة أهل الجنة في الجنة..
اللهم اهد مفكريهم، وخطباءهم، وأدباءهم، وشعراءهم، وسائر المسلمين، إلى العناية بي، فعنايتهم بي تعني عنايتهم بقرآنهم، وإسلامهم، وعقيدتهم، وعبادتهم، وسائر شؤونهم الحيوية.. يا رب العالمين".
عبد الله الطنطاوي