لغتكم يا عرب
يفرح الناس بيوم الجمعة وأحزن..
أحزن.. لأنني سوف أستمع إلى خطبة تهتزّ منها فرائص الخليل، وتتكسر عظام سيبويه، ويزداد اشتعال الشيب فيما تبقَّى من شعرات سود لعبد الملك الذي سئل عن شيبه المبكّر، فأجاب:
- كيف لا أشيب، وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة؟
ونحن ما عدنا نأبه للعقول التي تُعرض علينا كل جمعة، فقد شغلتنا ألسنة الخطباء
الأشاوس عن عقولهم.
ولهذا الابتلاء بتلك الألسنة الحداد، صرت أطوف في مساجد المدينة، أتخير من مساجدها الكثيرة مسجداً ترتاح لخطبته الأذن، وتشتدّ المحنة في كل مسجد، حتى كانت الطامة في مسجد وقف خطيبه نصف ساعة في الخطبة الأولى، ومثلها في الخطبة الثانية، يتحدث أو يخطب بلسان عجيب، لا أدري من أي (سيبويه) استقى نحوه وصرفه، فالمرفوعات عنده هي: المفعول به، والظرف، والاسم الواقع بعد ظرف أو حرف جر، والمنصوبات عنده هي: الفاعل، ونائبه، والمبتدأ وخبره، أو أحدهما، والمجرورات مشتركة بين هذه جميعاً.. ولا تسل عن استخدام العدد، والممنوع من الصرف، وجمع المؤنث السالم، فاستخدامه لها يدمي الفؤاد، ويضحك الثواكل في آن.
ومن الأدعية التي دعا، ما يخرج من الملّة، والعياذ بالله، إذا كان يقصدها ويعنيها كما جاءت على لسانه الذَّرب.
يا حسرة على لغة القرآن العظيم، وعلى آياته الكريمة، وهي تدور على ألسنة العديد من الخطباء، حتى إني لم أملك نفسي من التصدّي لبعض أولئك (الفحول) في أجسامهم، الهِزال في لغتهم وعقولهم، وقد عَرَضْتُ نفسي على بعضهم، أن يكتب الخطبة، وأقوم بتشكيلها، أو أن أكتبها له وأشكلها، وأجري على الله.
أنا، وأمثالي من عشاق لغة أهل الجنة، لا نملك إلا أن نبدي أحزاننا على ما آلت إليه حال اللغة العربية على ألسنة الخطباء والوعّاظ، والمتحدّثين في الفضائيات والإذاعات الموسومة بالإسلامية، ومقدمات تلك الأحاديث الحافلة بالأخطاء التي تتفاقم لتصير خطيئات، ويا ليت الشيخ الشاعر الداعية الحبيب عائض القرني ينتبه إلى مقدمة برنامجه الرائع: (روائع من السيرة) التي يقدمها صاحب صوت إذاعي جميل، ولكنه أفسد جماله بتنوين (روائع) تنويناً فظّاً منفّراً، وكذلك الذين يقومون أو يقدّمون أحاديثهم في إذاعة القرآن الكريم التي نحبّها، وندعو لها، ويأبى بعض المتحدّثين فيها إلا أن يسيئوا إليها بجهلهم الفاقع في لغة القرآن الكريم، حتى إنهم ليخطئون في تلاوة الآيات والأحاديث التي يستشهدون بها.. يا ويحهم!..
وكذلك على ألسنة المعلقين على البرامج، والمشاركين في الندوات، وعلى ألسنة المذيعين والمذيعات، والممثلين والممثلات، والصحفيين، والكتبة، ومن إليهم ممن تشابكت حياتهم مع هذه اللغة الكريمة التي هجرها وأساء إليها –ولا أقول أفسدها، لأنها عصية على الفساد والإفساد- أساء إليها من كان الأجدر به وبهم أن يحافظوا عليها، ويعلموها الناس.
كنا، ونحن صغار، نتطلع إلى شهر الصيام- لا شهر الطعام والخيام كما انتهى إليه الحال في هذه الأيام- ونستعجل الذهاب إلى المسجد لحضور صلاة التراويح، أما اليوم، فصارت صلاة التراويح باهظة الثمن، شديدة الوطأة على النفوس، وأنت تستمع إلى خطب الخطباء، وأحاديث المتحدثين بين الترويحات.. يا ويحهم.. جعلوا الناس يفرّون من صلاة التراويح، يكتفون بالركعات الأربع الأولى، ثم يخرجون سراعاً قبل أن يستمعوا إلى المتحدثين الذين إذا أمسك أحدهم بالميكروفون، أمسكتَ قلبك، وعقلك، وأعصابك، فقد لا ينتهي إلا مع الأذان الأول، وهو لا ينتبه لتسلل الناس من بين يديه، وعن شماله ويمينه.. يطيل الكلام في غير طائل، ويفعل باللغة ما يفعل، وما عليك إلا أن تنسحب وتخسر صلاة الجماعة في المسجد، أو تصبر، وتسلّم أمرك لذلك (العالم)!
وقد أطلت الحديث عن المشايخ والوعاظ، لأنهم المعنيون بلغة القرآن العظيم، أو هكذا ينبغي أن يكونوا.. وكذلك كان أسلافهم الأقدمون، والمحدثون، ونحن لا نطالبهم أن يكونوا مثل أخطب خطباء العصر الذي شهدنا: الشيخ مصطفى السباعي، ولا مثل الخطباء الكبار: عصام العطار، وسعيد رمضان (المصري طبعاً) وعلي الطنطاوي، ومصطفى الزرقا، وعبد الفتاح أبي غدّة، ومحمد أبي الفتح الخطيب، وبهجت البيطار، وحسن حبنكة ومحمد الحكيم وأحمد عز الدين البيانوني، ولا مثل أحمد مظهر العظمة، وعبد الكريم عثمان، وعمر عودة الخطيب، وأمين المصري، وإن كنا نرغب أن يكونوا مثل هؤلاء الأفذاذ الذين تربينا على سماعهم في مسجد جامعة دمشق، وقاعة محاضرات الجمعية الغراء بدمشق، وعلى خطب الفصحاء من مشايخها: كالشيخ نايف عباس، وعبد الرحمن الزعبي، وعبد الغني الدقر، وأديب الصالح، وسواهم من علمائنا الأفاضل، رحم الله الأحياء منهم والأموات، ولكننا نريدهم أن يتقنوا هذه اللغة التي منها ومن علومها يتعيّشون ويتسنّمون المناصب.
أنا أعتب على الإسلاميين أولاً، وعلى العروبيين القوميين ثانياً، ولا أتأبّه عليهم إذ أدعوهم إلى دراسة لغتهم، وفهمها، وحسن النطق بها، ليخرج الحرف من مخرجه الصحيح ، وليكون إعراب الكلمة سليماً فلا يفسد معنى، ولا يسيء إلى مستمع.. فهل من مدّكر؟
عبد الله الطنطاوي