دمعة وفاء و عرفان
محمد السيد
قال تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلاً )) الأحزاب 23
دأبٌ و هِمّةٌ و صدقٌ في العهد و الوعد ، لا يحصلها جميعاً إلا من كان من الرجال الرجال ، الذين على رأسهم وفي مقدمة ركبهم الصادق الزاهد العابد المثابر الوفي التقي النقي فضيلة الدكتور حسن الهويدي ( أبو محمد ) ، و لا نزكيه على الله فهو حسيبه ، و لا نقول إلا بما شهدنا و ما علمنا ، على مدى الزمان الطويل من الرفقة والتلمذة و الخبرة المباشرة به و معه ، فهو كما قال الشاعر :
رافعة جبهته الجباه كأنه من روعة صلاة
و من الأعماق و أعماق الأعماق ، تهتز قلوب لفقدك يا أعز الناس ، فتنزف الأسى و الحزن و لوعة الرجال على فراق من كان رفيق النبض ، و ملء الأعين و الأبصار ، و كان ظلالاً وارفة تطرد هجير الغربة و حرّ المحنة، تسيل أعطافه بالحنان و الأخوة و الأبوة و لين الجانب ، و ينتضي أفقه مدّا بعيد النظر ، عميق الرؤية ، شاسع الغور ، قوياً لقوة ، و ليناً للين ، يتواضع بين يديه ليل الأسى ، فيتحول إلى أمل دائم ، يحدوه إيمان فذّ بوعد الله للمؤمنين الصابرين المرابطين فوق جمر الانتظار و أمام معاقل اليأس ، يصدون كل ذلك باليقين الكامل بقول ربنا جل شأنه : (( و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )) .
يا أبا محمد .. و أنت في سموك وفي صمودك ، ضربت جذورك في عقولنا و أرواحنا ، نحن تلامذتك و أتباعك، فرُحْنا نسبح في بحر قامتك المديدة ، التي كانت تناطح هامات الشامخات ، عملاً دؤوباً لا يتوقف عند مرض أو تعب جسد ، تصل الليل بالنهار ، تعبئهما بناضج الإنجاز ، لتسير قافلة الدعوة سيرها المسدد ، غير عابئة بالعوائق ، و غير متوقفة عند الإحن أو المحن ، بل إنها تصنع من ذلك كله مناسبات لعقد الرايات المنتجة للخير و الفوز و النجاح .
و على الدرب اللاحب الطويل سرت و سارت معك جحافل الإخوان أعواماً مديدة ، كنت فيها النبراس ، السابق المجلي في العبادة و الخشوع فيها ، فقد جعلت قرة عينك في الصلاة ، تتحضر لها على أنك ستقابل عظيماً ، و أسكنت اللسان ذكراً رطباً أبداً ، لا تتخلى عنه لحظة ، و كنت المِكّيث الذي يقلب الرأي ، و يكثر الاستشارة ، بل و يتعمق فيها ؛ كي تنضج الفكرة ، و يعذر المفكر إلى الله ، فلا يكون الرأي فطيراً ، و لا يكون القرار مسكوناً بكبرياء الصلاحية ، المفتونة بالمكان و المكانة ، فقد سكنتك الدعوة ، و احتلت منك كل قلبك و عقلك و روحك ، وكل جوارحك ، فكنت تفتخر أبداً أمامنا أنك لم تتخلف قط عن موعد للتنظيم أو عن مهمة من مهمات الدعوة مهما كانت الظروف ، و نحن نشهد أننا كنا نشفق عليك و قد بلغت ما بلغت من السنّ ، و ارتجفت بعض أعضاء جسدك من المرض ، فنطلب منك عدم السفر أو التوقف عن القيام ببعض الأعمال ريثما يبرأ الجسد ، فكنت ترفض طلبنا رفضاً عجيباً ، و تصر إصراراً عنيداً للقيام بالواجب و تأديته على أكمل وجه قائلاً : إن هذا الجسد خلقه رب العزة ليقوم بخدمة دينه ، و الاستقامة على طريقه ، لا ليتوانى عن العمل لأقل طارئ مقتدياً بإمامك و إمامنا الشيخ الشهيد حسن البنا _ رضي الله عنه _ فكم كان له من المكانة و الحب في قلبك ..!
أبا محمد و إنها لهمة الأفذاذ الذين وقفت على رأسهم ، و في مقدمتهم ، و كافحت عمرك من أجل إخراج إخوانك من محنتهم ، و في ذلك ناوشتك الألسن و أقاويلها فلم تأبه ، و مضيت فيما عَدَدته واجبَ الوقت ، ومهمة الإنسان المسؤول ، ذي الرؤية الثاقبة المتيقنة من تأييد الله .. فكانت خطاك المصرة على نوال المطلوب نسمات عليلية ، هدهدت نفوساً تواقة للخروج من مواقف ، أحاط بها العجز و غبش الطريق . و رغم أن الخصم كان ذا عوج في سلوكه ، و ذا ممارسة متوحشة ، و ذا مواقف عبثية تجاه قضية كان و مازال الوصول إلى تفاهم عادل بشأنها كفيلاً بإخراج الوطن من حالة الاحتقان الشديد الذي يسود أفق الوطن السياسي والاقتصادي و الأخلاقي .
أستاذنا و شيخنا الحبيب ، الآن وقد ارتحلت إلى رب كريم ، يعلم من حبك له ما لا نعلمه ، و مطلع على مناجاتك له في الأسحار ، تتململ بين يديه تململ السليم ، تذرف الدمع السخين ، قابضاً على لحية ابيضت في سبيله ، و كأني بك تستنسخ أقوال سيد عظيم من أسيادنا ؛ إذ كان يجلس في السحر ، قابضاً على لحيته المبتلة بدمعه قائلاً : يا دنيا غري غيري ، غري غيري بتتك ثلاثاً .. أبي تعرضت أم لي تشوفت .. هيهات .. هيهات ، لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، و عمرك قصير ، و خطرك كبير ، آه من قلة الزاد و طول السفر ، ووحشة الطريق .
لقد فاجأنا رحيلك ، و حزبتنا ساعة سفرك ، فلم تمهلنا الوقت لنحتضنك كما احتضنتنا أيام حياتك ، و كم كانت آمالنا حاضرة حين سكنت أبصارنا صور أشبالك ، الذين تركتهم فينا ، يذكروننا كل وقت بعظمة أثرك إلى جانب سيرتك فينا ، التي رسخت في أرواحنا ، و تجسدت في عقولنا و جوارحنا سلوكاً و فكراً ، و ممارسة لن يخبو لها أوار ، و لا يتوقف ضياؤها أبداً ..
و يا أهل الفقيد الحبيب الكبير ، و يا أصدقاءه و أحباءه و إخوانه و يا جماعته ، التي عاش و قضى من أجلها وفي شأنها ، لا تقولوا إلا ما يرضي ربكم ، و لا تتلفظوا إلا بما تلفظ به نبيكم : (( إن القلب ليحزن و إن العين لتدمع و إنا على فراقك يا أبا محمد ( د . حسن الهويدي ) لمحزونون ، و إنا لله و إنا إليه راجعون ، ووسع الله لك مدخلك ، و نور لك قبرك ، و جعله روضة من رياض الجنة ، و سلام عليك في الصالحين ؛ فالموت حق ، وصدق الشاعر إذ قال :
إن الطبيـب له علـم يـدل به ما دام في أجل الإنسان تأخير
حـتى إذا ما انقطعت أيام مهلته حار الطبيب و خانته العقاقير