أطفال حماة أيضاً كانوا يستحقون الصور
أطفال حماة أيضاً كانوا يستحقون الصور
منهل السراج
روائية سورية-استوكهولم
أمسك العسكري الولد من قبة البيجامة وراح يلوح به، ويسأل زميله العسكري الآخر في حملة الجمعة، شباط 1982: هل نترك هذا الولد أم نأخذه مع البقية؟ نظر العسكري إلى وجه الطفل المذعور وقال: اتركه، صغير، ردد الولد مؤيداً: نعم أنا صغير. ورغم صوته الرقيق، أخذوه وبالطبع مثل كل من أخذوا في يوم الجمعة المشؤوم لم يرجع أحد. شهادة أم الولد الذي لم يتجاوز الثانية عشرة.
وتقسم أم أخرى أنها هي التي جنت على ابنها، لو لم تسمح للولد الذي يحب عمته أن يذهب إلى بيت جده ليلة الأحداث ويعصى، لكان نفد مثل أخيه، قتل الولد في حضن عمته في منطقة الطوافرة، عمر الولد ثلاث سنين واسمه حازم، أما الأم الثالثة فأشهر من نار على علم، تلك المرأة التي أنقذت ابنها من النيران، وركضت هاربة به فوق الجسر، ومن لهفتها وجنونها على الولد رمته في نهر العاصي، بدل بقجتها.
تلك الأمثلة الثلاث أمثلة عن مئات الأطفال الذين قتلوا وعذبوا في أحداث حماة 1982، حيث لايتسع المقال لحكايات الجميع، وهذا هو الشباط السابع والعشرون. فماذا لدينا لنقوله؟ وكأنه لاأحد يعرف خطورة طمس ماحدث غيرنا، أو هكذا نحس، أوكأن الحدث لشدته، طمس في ذاكرة سوريا والسوريين، أو أن الأحداث لهولها لوت أيضاً عنق التاريخ. ليس هناك من تغيير، مزيد من اليأس ومزيد من الخسران، وليس مزيداً من الانكسار، لأن الانكسار لا يزيد، يقع مرة واحدة وقد حدث منذ أن وعينا على هذه الدنيا في بلد اسمه سوريا.
ويتحدث الخطاب الرئاسي السوري عن انتصار المقاومة في غزة، ومفهومه عن الانتصار، بأن اسرائيل هزمت لأنها لم تستطع أن تكسر إرادة المقاومة في غزة. في هذا هم محقون، لأن ما حدث في 1982 من قتل المدنيين، وهدم البيوت أكثر بكثير مما حدث في غزة، الفرق أن النظام نجح في كسر إرادة الناس، وبالتالي فقد سجل انتصاراً ساحقاً، ولاأحد ينكر بأن النظام الحاكم في سوريا دائماً كان منتصراً على شعبه.
يفهم المرء بأن الأخطاء والتناقضات تحدث كردات فعل سريعة وطارئة على أحداث غير متوقعة، ولكن كيف تفهم كل هذه الخطايا التي ترتكب على مر السنين؟
وما من جواب، وليس أمامنا إلا أن نكتب مقالنا، رغم اليقين بأننا لانفعل بالمقال شيئاً، بل ربما نحدث ضرراً بشكل ما، لأصدقاء في السجون، فداء الحوراني ورفقائها، وربما للأهل والمدينة التي نحب. وقد رجتني أمي كعادتها أن لا أكتب، أمي التي كابرت طويلا قبل أن تعترف بأن السعادة كانت فقط في الخمسينات والستينات، تقول ورغم إنها عرفت ربها بعد ذلك وصارت تصلي وتزيد الحجاب، ولكن لم يقترن هذا بالنسبة إليها إلا بالقمع والخوف. وهاهي منذ أكثر من ثلاثين عاماً تنتظر عودة الأبناء، وتجيب على أسئلة طارقي الأبواب، ثقيلي الظل. وتقول مستلبة تماماً: بم أجيبهم؟ والله عم إنسى. وتوصيني أن لا أكتب.
وأعيد عليها، أن هؤلاء الذين يطرقون الباب لا يقرؤون، لو أنهم يقرؤون الكتب، لو أنهم يتفكرون بالتاريخ، لكانت أساليب التعامل لديهم أكثر ذكاء وعدلاً.
ولكن حقاً ماذا يفيد المقال؟ منذ مئات السنين تكتب الكتب وتوضع النظريات والفلسفات وكلها تنادي بإنسانية الإنسان، و مع ذلك لم تنجح أن تزحزح ديكتاتوراً ولا أن تقلب نظاماً. وصار كاتب المقال مبتل بمقاله، وأحياناً كلماته واهنة تماماً كالورق الذي يطبع عليه، والآن ليس أكثر من شاشة سرعان ما تمحى ليحل محلها غيرها.
يفكر المرء بشكل طفولي، كيف بالكلام أو بمقال أن يساعد ذاكرة بلد بحاله لكي تبرأ؟ كيف يمكن أن تشفى ذاكرة البلد من قتل الآلاف من أهلها وإهانة البقية الباقية وهدم بيوتهم؟ كيف يمكن هذا، إن لم تكشف الحقائق ويقال للمفجوع، معك كل الحق بأن تفجع، لأن ما حدث كان مفجعاً. ونطلب عفوك ونعترف بأنك ظُلِمت وبأن الحياة كانت من حقك ومن حق أهلك وأن المدينة لم تستحق ما حدث لها.
ولكن كيف نحلم الآن كهذه الأحلام، إذا كان آخر خطاب رئاسي سوري، يوصي بأن نعلق صور الأطفال القتلى في غزة في غرف نوم أطفالنا الأحياء، كي لا ينسوا عدوهم. أفلا يعني هذا أن تفعل الأمهات في حماة الشيء ذاته، بما أن الجميع بلا استثناء أصيب بالقتل والتشرد والفقر والإهانات منذ 1980. كيف نحلم بالصفح إذا كانت وصية الحاكم عكس ذلك.
كأن كارثة قتل الأطفال هي بنوع القاتل أو هويته وليس بفعل القتل. فإن كان قاتل الطفل اسرائيلياً فالطفل شهيد وفي الجنة طائر بريء، وإن كان قاتل الطفل حامل سلاح الحاكم فإن على الطفل أن يمد رقبته مطيعاً تماماً، كما هو مطلوب منه ليكون أضحية من أضحيات عيد الحاكم.
كيف نشجع الناس لكي ينصفوا ذاتهم والتاريخ؟ ونتوسل المدينة الآن فقط أن لا تكون حاقدة.
كيف نمنع أماً في حماة حين تشاهد الأطفال القتلى في غزة بأن لا تغص وتتذكر: لم يصور أحد أطفالي وهم يقتلون. أولادها الذين مؤكد أنهم كانوا أيضاً كأطفال غزة جميلين وكانوا يستحقون دقائق من التلفزيون، قتلوا ولم يسجل أحد لا أسماء ولا صور ولا عناوين. والقتلة من كل الأطراف، أحياء ينعمون، بل ربما اتفقوا أخيراً أن يتواطؤوا على المدينة وأهلها.
كثيرون يقولون/ لا وقت الآن لنبش الماضي، ولتذهب ذاكرة المدينة الصغيرة إلى الجحيم، نريد أن نعمر سوريا واحدة لافرقة بينها. ونقول إذا كانت سوريا الحرة تعمر بنكران ماضيها، فتفضلوا وعمروا، ربما المستقبل الحر يبرئ النفوس من الحقد، ولكن ماذا فعلتم خلال الأعوام السابقة، والرؤوس صماء والألسنة خرساء، ومن قال كلمة حق زج في السجون وما من مكترث، ولم كانت الثقة دائماً مفقودة؟ وأكاد لا أفتح بريدي يوماً إلا وأتلقى أسئلة من الناس عن شروط اللجوء إلى البلاد الأوروبية. والكل يتكلم عن مستقبل أبنائه قانطاً تماماً من مستقبل سوري آمن لنفسه ولأسرته.
نريد بقولنا للأم التي تتذكر اليوم بأنها ليست لوحدها، وأننا نتذكر معها، ويجب أن نتذكر جميعاً. نعرف أن ما حدث أعمق بكثير مما كتب وما يكتب وما سيكتب، إذ إن إرهاب طفل للحظة لا تعبر عنها كل كتب العالم وكتابهم. ولا يمكن للغة مهما بلغت أن تنصف الآلام الإنسانية التي حدثت لهذه المدينة، والمؤسف أنه لم تكترث جهة عادلة للقيام بالدراسة والتوثيق والاحصاء والتحقيق. الأمر الذي نأمله فقط لكي تشفى الذاكرة، وإن لم يحاكم أحد ولم يحكم أحد. إذ لا عقاب يعادل الآن، لحظة رعب عاشها طفل قبل قتله.