سلام على غزة
الأمير الحسن بن طلال *
استحق العدوان الذي تشنه إسرائيل على مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة ما وصفه به مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة وأستاذ القانون الدولي في جامعة برينستون البروفيسور ريتشارد فولك Richard Falk من أنه "جريمة ضد الإنسانية".
ولقد سبق للبروفيسور فولك، وهو يهودي، أن أدان العقوبات الجماعية التي أوقعتها إسرائيل على غزة من خلال الحصار وقال إنها "خرق فاضح وجسيم للقانون الدولي الإنساني خلافا للمادة 33 و55 من اتفاقية جنيف الرابعة".
وترتكب إسرائيل هذا العدوان على خلفية اليأس الذي ما برح يأخذ بخناق الفلسطينيين بعد أن انطفأت آمالهم في "السلام الشامل والعادل... الذي تقبل به الأجيال وتصونه"، على حد تعبير المغفور له الملك الحسين.
وكانت هذه الآمال قد انتعشت مع انعقاد مؤتمر مدريد في 1991. لكن سبعة عشر عاما منذ ذلك التاريخ أسفرت عن غياب أي رغبة حقيقية لدى إسرائيل في هذا النوع من السلام.
والدليل على ذلك طوال تلك الأعوام أنها تعد الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 أرضا محتلة يتعين عليها أن تنسحب منها؛ كما يتعين عليها إلى أن يتم انسحابها أن تقوم بما يلزمها به القانون الدولي من مسؤوليات الدولة القائمة بالاحتلال تجاه الأرض والشعب الواقعين تحت هذا الاحتلال.
بدلا من ذلك، استمرت إسرائيل في السلوك المعاكس لتلك الالتزامات والتنكر الكامل لجميع القرارات الدولية ذات العلاقة؛ ممعنة في التوسع الاستعماري (الاستيطاني) وضم القدس والجولان، ومعاملة الشعب الرازح تحت الاحتلال كجالية طارئة في "أرض إسرائيل".
وحين خرجت إسرائيل من قطاع غزة مكتفية بإحكام الحصار على القطاع من محيطه الخارجي، لم تصف ذلك بأنه "انسحاب من أرض محتلة" بل "إعادة انتشار في أرض متنازع عليها"! ومن ثم أحكمت السيطرة على القطاع من خلال الحصار برّاً وبحرّاً و جوّاً.
المفارقة أن ذلك التنكر للقانون الدولي ولشتى قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة يأتي من دولة تدين بشرعية وجودها للأمم المتحدة!
واللافت أيضاً أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949 بقبول إسرائيل عضواً في هيئة الأمم المتحدة تضمن الاشتراط الصريح بأن تلتزم الدولة الجديدة بما يقتضيه ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة رقم (181) لعام 1947 الخاص بتقسيم فلسطين والقرا
ر رقم (194) لعام 1948 الخاص بعودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردتهم منها الدولة الجديدة!
إن يأس الفلسطينيين من تحقيق الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية استمر في التصاعد إلى أن أحبط صبرهم الجميل الذي استغرق عشرين عاماً امتدت من 1967 وحتى الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) التي أدت صدمتها إلى تداعي العالم إلى مؤتمر مدريد عام 1991؛ وانتعش الأمل هذه المرة بحصول الفلسطينيين على الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية وإقامة دولتهم المستقلة على جزء من الأرض التي أقرها لهم قرار التقسيم؛ وهو الجزء الذي احتل عام 1967، وفيه "القدس الشرقية وحولها" كما تعرّفهما فتوى محكمة العدل الدولية وقرار الأمم المتحدة المصدق عليه.
لكن غياب الجدية في تعاطي إسرائيل مع أهداف السلام العادل، حتى بعد التنازلات المذهلة التي قدمتها القيادة الفلسطينية في أوسلو عام 1993، أدى بهذه القيادة ذاتها إلى التعاطف مع الانتفاضة الثانية التي جعلها اليأس المتفاقم تلجأ إلى العنف في المقاومة وتشهر ما تيسر لها من سلاح على هزاله وضعفه.
لعلّ صراع الأخلاق والشرعية سيكون لصالح فلسطين على المدى الطويل؛ لكن الألم شديدُ المضاضة بسبب التغيير المجحف على أرض الواقع. ونحن نرى مشروع إسرائيل الكبرى يتسلسل أمامنا مرحلة إثر مرحلة؛ فغزة أوّلاً، لكن ليس آخراً!
إن العنف الذي يمثله العدوان الحالي الذي توقعه الآلة العسكرية لواحد من أقوى جيوش العالم ضد مواطني قطاع غزة البائس المحاصر والجائع وما تيسر لهم من أسلحة بدائية وبسيطة، بعد الحصار الخانق الطويل،
سيقود حتماً إلى ردود فعل متطرفة تطال الجميع. ربّما توظّف هذه الحرب لغايات سياسية مؤقتة؛ لكنّ تبعاتها السلبية الأكيدة والأوسع سوف تختطف عملية السلام إلى المجهول.
إنّها هيمنة إسرائيلية بلا هوادة؛ وهي تتذرّع بحجة تمثيل الغرب، خاصة الأميركان الذين لا يشاهدون شاشة الجزيرة. وهذه هي المحطة الوحيدة المسموح بها في رصد قتل المدنيّين لحظةً بلحظة.
هنا
تتردد في الخاطر أسئلة مزعجة عن مدى استمرارية العالم في تقبّل أنصاف الحقائق وازدواج المعايير، وعن قدرته على المحافظة على الحياد تجاه إلحاق الأذى بالمدنيين والأبرياء، يُقتلون وتُقطّع أطرافهم وتفقأ عيون صغارهم. أيعمل القانون الدوليّ، إذن، لدعم الأقوياء على حساب الضعفاء؟!
لقد شهدنا ستين عاماً من الفرص الضائعة والوعود السرابية والأمل الخائب جراء التهرب من استحقاقات القانون الدولي ومقتضيات الحقوق الإنسانية غير القابلة للتصرف. وكأن العبارة التي صيغت لتبرير "عودة" اليهود إلى "أرض الميعاد" لا تنطبق على الفلسطينيين الذين حُرموا حقّ تقرير المصير.
فالشعب الفلسطيني عاش ويعيش، على مدار عقود، مأساة لم يشهدها أي شعب آخر في التاريخ. والإسرائيليون يستخدمون أي وسيلة في التعبير عن هواجسهم غير الواقعية بأن حتى وجودهم مهدد؛ ناسين أن القومية اليهودية التوسعية (الحركة الصهيونية العسكرية) مكروهة مذمومة لعنصريتها، وابتعادها عن الأخلاقيات التي تقتضيها العقيدة النقية لكليم الله موسى عليه السلام.
واليوم، نشهد أزمة إنسانية كارثية في غزة نتيجة للعدوان الإسرائيلي الحالي، الذي حفّزه -على ما يبدو- الاعتقاد الخاطئ لدى الإسرائيليين بأن تنفيذ هذا المستوى من الوحشية سيجبر الطرف الآخر على قبول استمرار الاحتلال والاستعمار والركوع والاستسلام.
إن العكس هو الصحيح. وما يخلفه اليأس وفقدان الثقة وآلام الصدمات المتراكمة على كلا الجانبين، والحاجة إلى إرضاء مطالب جمهور الناخبين، يحول دون أي خطاب عقلاني.
حتى قبل التصعيد الحالي، كان للحصار الإسرائيلي تأثير مأساوي على سكان غزة.
فالنشاط الاقتصادي، لاسيما في القطاع الخاص، انهار عملياً، وتعطلت إلى حد كبير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء وإمدادات المياه والصرف الصحي؛ في حين ارتفعت أعداد العاطلين عن العمل وأولئك الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 50% تقريباً. وهذا أوجد تربة خصبة للتشدد والتطرف في المنطقة وخارجها.
أضف إلى ذلك حجم الخسائر المرعب في الأيام الأخيرة، من ناحية الأرواح التي أُزهقت، والبنى التحتية التي سُحقت، والمستقبل الذي دمّرته صدمات الحرب. إننا أمام كارثة إنسانية حقيقية مرعبة، أقلها التشظي والتفكيك لهويّتنا العربية الجامعة والنهضة القومية ولتراث الأجداد في العصر الحديث.
عند النظر إلى وضع الأمن الإنساني في الإقليم العربي حالياً، من المهم مراجعة إحصائيات الصدمة في المنطقة، مثل عدد الأطفال الذين قتلوا أو اختطفوا، والمدارس ذات الوضع البائس أو تلك التي دُمّرت، ونقص الغذاء والماء والطاقة. هذه الإحصائيات تشكّل مؤشرات على تفتيت الإقليم بدلاً من بنائه.
إن هذا العدوان الشرس على غزة هو محاولة إسرائيلية جديدة لفرض الشعور بالهزيمة لدى الفلسطينيين والقضاء على روح الدفاع عن كرامتهم وحقوقهم بمقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان المستمر. وتتعمق
مأساة فلسطين أكثر من خلال المزيد من الانتهاكات الصارخة لكرامة الإنسان الفلسطيني وحقه الأساسي في الحياة.
لا بدّ من التفكير الجادّ لدى جميع الأطراف في القيمة الأساس للحياة، وهي الإنسان؛ بعيداً عن مختلف التسميات والتحالفات والإيديولوجيات.
"قوات الدفاع الإسرائيلية" لا تُدافعُ عن إسرائيل، و"منظمة التحرير الفلسطينيّة" لا تقوم بتحرير فلسطين. لم يعد للتسميات أي معنى. فقد تعرضت "القومية العربية" لضربة قاصمة. ووقع الكثيرون في شرك النزاع بين ما يسمى "المعتدلين" وما يسمّى "الوطنيين" (كل حسب تعريفه الخاص). وآخرون يتم اعتبارهم "محور الشرِّ" حسب عقلية الحرب على الإرهاب: "إما معنا أو ضدّنا". الانقسامات بين الدول العربية موجودة من قبل؛ لكن السياق الأميركي للحرب على الإرهاب الذي فُرض على المنطقة فاقم من تلك الانقسامات.
تُروى قصّة الحرب الحالية ومَشاهِدها من طرف جهات إعلامية مختلفة. ففي حين تُسيطر على أجهزة الإعلام الغربية والإسرائيلية قصص المواطنين المصدومين جنوبي إسرائيل والناطقين الرسميين للجيش الإسرائيلي، هناك قناة الجزيرة التي تبث التقارير والصور الدامية للمجزرة البشرية من غزة نفسها.
وحين يأتي الوقت الذي تقترب فيه الهيئات الدولية من تقييم الضرر الفعلي والدمار البشع إنسانياً ومادياً، سيكون الوقت متأخراً جداً لفعل ما من شأنه إنقاذ حياة البشر هناك.
ولعله من الأخطاء الفادحة غياب أرشيف موثّق لعدد الضحايا العرب والمسلمين في شتى الحروب والنزاعات، بما في ذلك الحروب الأهلية وضروب البطش الدّاخليّ. ولنا في "أرشيف المجتمع المفتوح" في أوروبا الشرقيّة خير قدوة.
لقد أكّد كثيرون أن إسرائيل حجبت الروايات الدقيقة والصادقة حول الوضع الإنساني خلال 18 شهراً من حصار غزة. ولم تتدخل البلدان الغربية لمواجهة إسرائيل بسبب قضاياها السياسية مع حماس. (لنذكر هنا أن حركة حماس كانت جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية، ولم ترفض الاتفاقات السابقة).
وتخلت الأُمم المتّحدة عن حيادها بصفتها هيئة رقابة دولية حين انضمّت إلى اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط (مع أنها تظلّ فاعلةً على المستوى الإنساني من خلال تقديم المساعدات للمواطنين المنكوبين في القطاع)، في حين يتعين على الأمم المتّحدة أن تمثل القواسم الأخلاقية المشتركة في العالم.
على المستوى الإستراتيجي، وسعياً إلى تحقيق استقرار حقيقي في الشرق الأوسط، ثمة حاجة إلى إعادة تعريف الإقليم الذي تحصل فيه هذه الحرب؛ إلى جانب تعريف سياقاته، لتذكيرنا بالعوامل المؤثرة في التفكير على المستوى الإقليمي. وتلك العوامل شائعة في أقاليم أخرى من العالم حيث يوجد فهم كامل لموضوع الأمن.
نحن بحاجة ماسّة إلى إعادة بناء النظام الإقليمي العربي، وإلى رؤية فوق قطرية لدور النظام العربي في التعاون والاستقرار المستقبلي، ضمن نظرة واقعية إلى نظام إقليمي في الشرق الأوسط يضم، إضافة إلى دول المشرق العربي، دولاً إسلامية رئيسية كتركيا وإيران.
أقول: نظام إقليمي ينهض بمشروعات التعاون الإقليمي في القضايا التنموية عبر القطرية، مثل المياه والطاقة والبيئة والحدّ من الأسلحة وحركية هجرة السكان والقوى العاملة. ولعل مبادرات السلام التي تتخذ مثل هذا النظام الإقليمي المتماسك راعياً لها وضامناً لعدالتها هي الأرجح احتمالاً للديمومة.
من الواضح أنّ هذا الإطار الجديد مطلوب لضمان الاحتياجات الأمنية الطويلة المدى لجميع الأطراف في النزاعات الإقليمية. ولا بدّ أن تكون هنالك شبكة أمان لضمان تحقيق التوافق من خلال عملية للحوار والتعاون فيما يتعلق بالاقتصاد وقضايا الأمن على المستوى الإقليمي. وإن ننسَ، فلن ننسى الاستنجاد بالزكاة، بمفهومها العميق. فهذه فريضة كبرى آن أوانها على أوسع نطاق.
وحين يتعلق الأمر بالأمن الإنساني والديمقراطية، من الضروري أن تكون هنالك نظرة من الأسفل إلى الأعلى. وهذا يعني وجوب سماع أصوات مستويات المجتمع كلّها: المجتمع المدني؛ القطاع الخاصّ؛ القطاع العام؛ إلخ....
لقد عشنا عقوداً أسرى للحديث عن الحلول الظرفية والتوازن العسكري، ونسينا أن القضية هي قضية "الإنسان" وحقّه في الحياة الكريمة الآمنة من الجوع والخوف. ألم يحن الوقت لإقامة النظام الإنساني العالمي الجديد الذي نادت به الأمم المتحدة في مطلع الثمانينيات لإعادة إحياء قيم التضامن الإنسانيّ العالمي على أسسٍ أخلاقيّة وقانونيّة تستعيد التزام جميع الأمم بمواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان؟
إذا أردنا أن يأتي الوقت الذي يكون فيه لمواقفنا
الإقليمية دور حاسم في ترسيخ معالم المستقبل المزدهر، فعلينا إيلاء الأمن الإنسانيّ لشعوب المنطقة الدور الجوهريّ في وضع السياسات. وهذا بدوره سوف يخلق توازناً مطلوباً بين المصلحة والعاطفة في عمليات اتّخاذ القرارات؛ فلا تذوب المثُلُ العليا في سبيل الغايات الماديّة.
وإن كنا نؤمن بضرورة
التوصل إلى حل جذري لقضية فلسطين، ليس على مستوى الشعارات فقط، فعلينا تصويب الفكر لتهيئة العمل من أجل بناء المجتمع الفلسطيني الحديث.
كما علينا التفكير جدياً في معاناة الإنسان على أرض الواقع، من دون تحيّز عقائدي أو انغلاق فكري، وتعظيم الصالح العام تحت اسم فلسطين والقدس.
ويجب إبراز الوجه الإنسانيّ للشعب الفلسطينيّ من أجل استعادة الاحترام العالميّ له ولرسالته النضاليّة؛ تلك الرسالة التي تكاد تغيب عن الأذهان في خضم الانحياز الإعلامي الذي يسيطر على الشطر الأكبر من عالم الأقوياء.
*رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه.