رسالة إلى مسئول عربي كبير
عبد العزيز مصطفى كامل
هذا هو شهر رمضان الثالث الذي يمر على أهلنا وإخوتنا في غزة وهم يكابدون ظلم الحصار المفروض، عقابًا لهم على اختيارهم الإسلام ومن يمثله في الانتخابات النيابية الفلسطينية، وهو حصار لم تحصر مسئوليته على أهل الجحود والكُنود من اليهود، بل شاركهم فيه وربما شجعهم عليه أناس لطالما سمعناهم يتمسحون بقضية تحرير فلسطين، ومساندة الشعب الفلسطيني، فيظهرون التمسك بثوابته والإصرار على حل قضيته، باعتبارها قضية العرب والمسلمين الأولى! في حين أن أكثر هؤلاء لم يكونوا في الحقيقة إلا متاجرين بها، ومستخفين وراءها؛ ليظلوا دائمًا أصحاب شأن، وأهل قضية من القضايا الكبار.
وقد جاء الحصار ليكشف فصلًا جديدًا من زيف العلمانية العربية الفاشلة في كل شيء، وليتوج ستين عامًا من الفشل العلماني بتاج من العار الذي يغطي رأس كل من شارك وبارك، وكل من سكت وسكن، فلم ينكر على المسئولين عن بقاء ذلك الحصار المرشح للاستمرار حتى تزاح حماس، أو تتحول المقاومة إلى مساومة تداهن العدو، وتبيع القضية، وتلقي بالبندقية.
لهذا، ولهذا فقط وبالتحديد؛ تُطرح الآن من بعض الجهات الرسمية فكرة إرسال "قوات عربية "، لا لتحرير فلسطين من الإسرائيليين؛ ولكن "لتطهير" غزة من الإسلاميين!!
إن المسئولية عن استمرار الحصار تقع على رقاب من تحملوها بحسب كبر مناصبهم وسعة كراسيهم، وهؤلاء لا ينبغي أن يظلوا في منأى عن المساءلة منا، بدعوى أنهم هم المسئولون عنا.
لهذا؛ فهذه رسالة نوجهها بلسان كل من يشاركنا الرأي ـ وهم كثيرون جدًّا ـ إلى كل مسئول عربي كبير، شارك أو بارك أو صمت عن هذه النازلة المتصاعدة الخطرة، رئيسًا كان أو ملكًا أو أميرًا أو وزيرًا أو مديرًا كبيرًا، مع تسليمنا بأنها لن تصلهم من فرد أو مجموعة أفراد، بل ينبغي أن تكون رسالة الأمة كلها إليهم، خاصة وأن الجميع يعلم أن غالبية النظام العربي الرسمي اتخذ موقفًا منحازًا إلى جانب العلمانية الفلسطينية ممثلة في حركة فتح، في وضوح مفضوح، وصل إلى حد التواطؤ المكشوف على إسقاط الخيار الإسلامي للشعب الفلسطيني، والذي جاء بالإسلاميين الفلسطينيين إلى السلطة، فكان سببًا في فرض ذلك الحصار؛ رغم كل الدعاوى بخلاف ذلك.
والسؤال هو: في مصلحة من هذا الحصار؟ ولماذا يستمر؟! وإلى متى سيستمر بتلك الصورة المأساوية المزرية؟ التي تستعصي على الفهم في ظل وجود قيادات وزعامات وأنظمة وحكومات، بل نظام عربي كبير، يفترض أن له القدرة ـ إذا كانت لديه الرغبة ـ على فك ذلك الحصار في ساعة من ليل أو جزء من نهار! إن الأيام تثبت بمرورها ـ أيها المسئولون ـ أنكمَّ من لهم (أيادي) ومسئولية مباشرة أو غير مباشرة في استمرار تلك الأزمة المزمنة!
هل من حقنا أن نسأل المسئولين العرب عن مدى مسئوليتهم في استمرار ذلك الحصار؟ وهل من حقهم أن ينكروا أي مسئولية وهم في أعلى مراكز المسئولية؟ لا نظن ـ أيها المسئول ـ أنك حقًّا غير مسئول عما يحدث من قهر متعمد، وإذلال مقصود، للمرابطين الصامدين من شعب فلسطين، لأن حدود المسئولية في فهمنا للدين لا تقف عند حدود "سايكس بيكو" كما تظن، بل تتسع وفق حدود الله وشرعه، لتشمل كل نسمة مسلمة تستطيع يا صاحب المسئولية أن توصل بها إلى المسلمين نفعًا، أو تمنع عنهم ضرًّا، لهذا؛ فلن نعفيك ـ ولو أعفيت نفسك ـ عن تحمل قسط كبير مما يحدث.
إذا كان كل مسئول سوف يُسأل عن رعيته، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فإن رعيتك ـ أيها المسئول الكبير ـ ليست مجرد "وطنك الصغير" الذي تعفي نفسك عما وراء حدوده، بل مسئوليتك هي عموم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، في كل ما يقع تحت قدرتك وسلطتك، مهما تعذرت بقيود الجغرافيا، أو تعللت بحدود التقسيم التي فرقنا بها المستعمر المستكبر البغيض، فقد تحملت تلك المسئولية أمام ربك عز وجل عن الأمة بمقتضى القرآن العظيم الذي نزل فيه قول الحق جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ٥٨].
لا نظن أن اتساع مساحة مسئوليتك في حدود قدرتك واستطاعتك بوصفك مسئولًا كبيرًا من الأمور التي تحتاج إلى مزيد إيضاح أو إلحاح، فهذه الأمة ـ أيها المسئول ـ لها رسول عظيم كان رحيمًا بأمته، حريصًا عليهم، مشفقًا من العنت أن يصيبهم، وقد وصفه الله تعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وواجب كل مسئول يلي من أمور أمته صلى الله عليه وسلم شيئًا أن يكون بهم رءوفًا رحيمًا اقتداء به، يرفع عنهم الشقاء ويزيل المشقة، وإلا تعرض هو لمشقة وشقاء لا قِبل له به بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه، حيث قال: «اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم؛ فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم؛ فارفق به» [رواه مسلم، (4826)].
فأي شيء تحملته من أمور هذه الأمة فأنت مسئول عنه، بقدر درجة مسئوليتك ورتبة وظيفتك، ملكًا كنت أو رئيسًا أو أميرًا أو وزيرًا أو مسئولًا كبيرًا.
لقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وخوفه من العنت الذي يصيبهم، أن بيَّن أن مجرد غشهم سبب للحرمان من الرضوان، فقال عليه السلام: «ما من ولي يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم؛ إلا حرَّم الله عليه الجنة» [رواه البخاري، (7151)]، هذا في الغش الذي له ظاهر وباطن، فما بال من خان جهرة أو أعان علنًا، أو شارك في التضييق على المسلمين وفي خذلانهم واستباحة حرماتهم؟!
قد تعجبون ـ أيها المسئولون ـ من رسالة فيها سؤال لكم من آحاد شعوبكم؛ فقد تعود بعضكم على ألا يُسأل عما يفعل والناس يسألون، ولكن من قال لكم أيها المسئولون أنكم لا تُسألون؟ فالله تعالى سيسألكم عن أداء الأمانة التي لن يعفى منها حتى المرسلين: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 6-7]، مع الفارق بين السؤال والسؤال.
والأمة ستسألكم بين يدي الله عما استرعاكم الله من شئونها، وشئون مستضعفيها من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، وسط هذه الغمة والملمة المتواصلة، فجهزوا من الجواب ما يستجلب الثواب؛ لا ما يستوجب العقاب.
لقد كان ولاة الأمر قبلكم ـ أيها المسئولون ـ تقشعر قلوبهم من رهبة المسئولية، حتى من أهون الأشياء، فهذا عمر الفاروق رضي الله عنه يقول وهو في المدينة: "والله، إن هلكت سلخة بشط الفرات ضياعًا؛ لكنت أرى الله تعالى سائلًا عنها عمر" (ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، (1/70)).
لقد كنتم ترددون ـ ولازلتم تقولون ـ إن قضية فلسطين هي قضيتكم الأولى، ومعركتكم الكبرى طوال ما يزيد عن ستين عامًا مضت! ففلسطين ـ أيها المسئولون ـ كانت على قائمة قضاياكم المعلنة وشعاراتكم المرفوعة، فما الذي حدث حتى تنفضوا أيديكم عنها اليوم بما يشبه الإجماع؟!
ما هي جريمة هذا الشعب ـ أيها الساسة ـ حتى يُعاقب بالحرمان من أبسط حقوق الإنسان وأنتم تبصرون؟! هل لأنه اختار ما لا يريده أكثركم للشعوب من التوجه نحو الخيار الإسلامي سياسيًّا واجتماعيًّا وجهاديًّا؟ هل خاف بعضكم على شعبه من عدوى الإباء والفداء في فلسطين؟ أم أشفق البعض على العدو من انتشار آثار تلك العدوى في الأرض القريبة منه؟
أكثر من عامين ـ أيها الرسميون ـ وشعب غزة يلاقي الأمرِّين وأنتم تعلمون، ولكن لا تعملون على فك ذلك الحصار الذي استنكف من مثله بعض المشركين في مكة، عندما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم في شعابها، لكن أكثركم في هذا الحصار لا يحرك ساكنًا، بل قد يسكِّن المتحرك إذا أراد أن يتحرك، حتى أصبح ذلك القطاع الصغير الذي تبلغ مساحته مئة وخمسين ميلًا مربعًا، سجنًا كبيرًا يصل نزلاؤه إلى مليون ونصف مليون نزيل، نصفهم من الأطفال دون الخامسة عشرة!
وحيث أصبحت غزة ـ أيها المسئولون ـ حقًّا "محرقة" كما أرادها النمرود "أولمرت"، تأكل نار اليهود أخضرها بكماله، ولا تترك يابسها في حاله، فأين أنتم من كل ذلك؟
إن منع الغاز والوقود عن أهل غزة ـ يا وزراء النفط العربي ـ صار عارًا يلحق كل من سمح به أو ساهم فيه أو سكت عنه، خاصة وأن الكثيرين لا يزالون يقيمون علاقات اقتصادية كاملة مع العدو المحاصر لإخواننا، والبعض يمنحه الآن بصورة رخيصة الغاز الرخيص الذي يساعد في زيادة قوته العسكرية والاقتصادية، التي لا يرتد ضررها إلا على كل العرب المسلمين وبخاصة أهل فلسطين!
وعندما نسمع عن ضيق المستشفيات الصغيرة المحدودة عن استيعاب القتلى والجرحى والمرضى تحت القصف العنيف كلما هاج اليهود، نتذكر ـ يا وزراء الصحة العرب ـ كيف أن جناحًا من أجنحة بعض المستشفيات الفارهة الأشبه بالمدن في بعض عواصمكم، كان الممكن أن يكفي حاجة تلك البقعة الدامية الصغيرة من الجسد الإسلامي المترامي، لو كانت هناك جدية في تقديم المساعدات الطبية إلى أهلينا المستضعفين هناك.
وحينما رأينا جموع الغزَّاويين، وهي تضطر لكسر سور الحصار في رفح المصرية، كي تنقذ مرضاها وجوعاها، وتلتمس حاجة أسراها وجرحاها، من الحاجيات والضروريات ـ شراء وليس استجداء ـ تملكنا العجب ـ يا وزراء المالية والاقتصاد العرب ـ كيف سمحت ضمائركم بألا تضعوا على هوامش اهتماماتكم التنموية، أو حتى معوناتكم الاقتصادية، التعجيل بتقديم "الحق المعلوم" للسائل والمحروم في الأرض المقدسة من مال الله المستحق لهم، والذي سيسأل الله عنه كل مسئول أخفى أو منع أو ساهم في منع زكوات الركاز، وما يخرج من كنوز الأرض النفطية والمعدنية التي تضاعف دخلها أضعافًا كثيرة في السنوات الأخيرة!
لقد رأينا ـ أيها المسئولون العسكريون ـ كيف دافع أطفال فلسطين ورجالهم ونساؤهم من أمهات وفتيات، بأرواحهم وفلذات قلوبهم ومدخرات أقواتهم عن الكرامة العربية والإسلامية أمام جيوش الوحوش اليهودية، فأيقنا أن واجب المسئولية يقتضينا أن نسائلكم ـ يا حماة الديار ـ عما رسمتموه من خطط استراتيجية للدفاع عن هؤلاء المدافعين العزل...؟!
أيسركم ـ يا وزراء الدفاع ـ أن يكون قصارى ما في أيدي مجاهدي فلسطين اليوم ـ بعد ستين عامًا من اغتصابها ـ مجرد صواريخ محلية الصنع، يصنعها الشباب على أسطح المنازل، في ورش الحدادة المعرضة دائمًا للقصف بالطائرات والاقتحام بالمجنزرات؟!
أين اتفاقيات الدفاع المشترك؟ أين خطط توحيد القيادة وتطوير المواجهة وتحديث التسليح الذي طالما أسمعتمونا الحديث عنه في مؤتمرات القمم العربية؟!
إن الحصار الاقتصادي ـ أيها العسكريون ـ سبقه بعلمكم وربما عملكم، حصار عسكري، عبر حدود دول الطوق، يمنع عن المقاومين الفلسطينيين تهريب رصاصة أو قنبلة أو مدفع، مع أن أساطيل التسلح العربي التي تدفع الأمة فواتيرها الباهظة من عرقها ومقدراتها وأرزاق أجيالها، تنتهي صلاحيتها ـ يا مسئولي الدفاع ـ قبل أن تستعمل في معركة أو تشتبك في مواجهة جوية أو بحرية أو برية مع عدو، اللهم إلا إذا حصل ذلك في حروب عربية عربية، خاصة بعد أن ساد السلام والوئام بين الأنظمة العربية والدولة اليهودية، فعن أي شي تدافعون إذن؟ إذا لم تدفعوا شر هؤلاء الأنجاس عن أرواح المسلمين ومقدساتهم ومقدراتهم؟!
إننا نشاهد ـ يا وزراء الإعلام العرب ـ أن قضية فلسطين قد قزمت في حس الجماهير العربية في السنوات القليلة الماضية، بعد أن كان التجاوب معها كبيرًا، فما الذي تغير يا ترى؟! إن فلسطين لازالت هي فلسطين، وقضيتها مازالت هي قضيتنا، وأهلوها أهلنا، ورعاية جرحاها ومرضاها وجوعاها والإعلام بها لا تزال أمانة في أعناق كل المسئولين الإعلاميين، لذلك نعجب ونستغرب ـ أيها الإعلاميون ـ من هذا الجفاء الطارئ، ما سببه؟!
إننا سرعان ما سنكتشف ـ أيها المسئولون ـ أنه لا توجد سياسة إعلامية مستقلة لدى وزاراتكم إلا ما تطلبه حكوماتكم، بدليل أن ما تمدحونه اليوم تذمونه غدًا، وما تشغلون الناس به الآن تشغلونهم عنه بعد ذلك، هذا بخلاف إغراق إعلامكم في تزويق وتسويق المواد الهابطة من كل صنف ولون، وهو ما جعل أكثر وسائل الإعلام تميل عن مناصرة المجاهدين الفلسطينيين، وتنضم إلى ناقديهم وشانئيهم ومعارضيهم.
وأنتم يا وزراء الخارجية العرب، أين جهودكم السياسية ومساعيكم الدبلوماسية؟ فبعد مرور أكثر من عامين على الحصار، لم نر لكم جهدًا يستحق الاعتبار لتذكير العالم الحر، ومحافله الدولية ومنظماته الإنسانية و الحقوقية، بأن هناك شعبًا حُكم عليه بالإعدام جوعًا، أو بالحبس المؤبد خلف الأسوار العازلة والمعابر القاتلة، بجريرة أوهامه الخيالية عن عصر الحرية والديمقراطية!
هل كانت حرية عشرات الآلاف من الغزاويين ـ أيها المسئولون ـ أهون عند بعضكم من حرية بعض الممرضات المجرمات البلغاريات عند دول الاتحاد الأوروبي، هؤلاء القاتلات اللاتي وجدن من عموم وزراء خارجية أوروبا موقفًا دبلوماسيًّا موحدًا، يهدد بقطع العلاقات مع ليبيا إذا ما نفذت فيهم حكم المحكمة، بعد إدانتهم مرارًا بحقن أطفال ليبيين بفيروس الإيدز؟!
أم هل صارت قيمة هؤلاء لديكم أقل من شأن المرتد الأفغاني الذي هدد الاتحاد الأوروبي بمقاطعة ومعاقبة الحكومة الأفغانية إذا قدمته لمحاكمة شرعية؟! أم أن كرامة ذلك الشعب أصبحت في نظركم أقل شأنًا من بعض الصحافيين الغربيين المرافقين للمحتلين، عندما يُختطف أحدهم أو يُحتجز لأجل الإفراج عن مئات المسجونين في زنازين الغاصبين؟! هل لأن هؤلاء الصحافيين صفر الشعور، زرق العيون، تقيمون الدنيا ولا تقعدوها مع حكوماتهم حتى يتم فك حصارهم والإفراج عنهم؟ بينما تقبع مئات الطاهرات العفيفات الكرائم في أقبية السجون عند يهود العرب والعجم في فلسطين، ولا تتحرك لأجلهم شعرة في رءوسكم ولا خلجة في مشاعركم؟!
وأما أنتم يا وزراء الداخلية العرب، فإننا لا ننكر جهودكم "الجبارة" التي تصل الليل بالنهار في محاربة ما تدعونه أخطارًا محلية على الجبهات الداخلية للدول العربية، حتى كاد التعاون العربي ينحصر في التعاون الأمني! ولكننا نسألكم: هل أصبحت الجبهة الداخلية في فلسطين استثناء من ذلك؟ وأليس من واجب العرب ـ كل العرب ـ أن يدعموا ثبات واستقرار الصامدين في أرض الرباط، بدلًا من المساهمة في توهين قواهم وحل عراهم، وتقوية العدو عليهم؟
نعلم إن فلسطينيين كثيرين يقبعون في أقبية الزنازين وقعور المعتقلات العربية، وآخرين يعانون ـ مع الحصار ـ المرارات بأنواعها لأجل تنقل أو سفر يليق بالإنسان خارج الأراضي الفلسطينية، في حين أن آلاف الجواسيس والمفسدين من اليهود وعملائهم يرتعون في العواصم والمدن والشواطئ العربية بجوازات سفر أمريكية وأوروبية، بل إسرائيلية، وينسقون فيما بينهم للإيقاع بالمجاهدين في فلسطين وغير فلسطين، دون أن نعلم أن أحدًا يجرؤ على توقيفهم أو مساءلتهم، فلماذا يضاف إلى اضطهاد يهود الدولة العبرية تضييق في البلاد العربية؟! ولماذا يضاف حصار الخارج إلى حصار الداخل؟!
وإذا جئنا إلى مسئولية وزارات العدل، فإن العدل يقتضينا أن ندين الظلم الواقع على الفلسطينيين، دون تحرك يذكر منهم، فلا هم قاموا بتكييف جريمة الحصار من الجهة القانونية، ولا قاموا بالتحرك بها دوليًّا، فمنظمة العدل الدولية التي تنضوي كل وزارات العدل العربية تحتها لم تتلق ما يثير قلقلها، فضلًا عن حماسها، كي تتحرك لرفع الحصار عن شعب أعزل مظلوم، وكأن العدل مطلوب فقط في القضايا التي تخص مصالح دول الظلم والاستكبار وقوى البغي والاستعمار، كما في معالجة قضايا دول البلقان النصرانية ودول شرق أوروبا، وتيمور الشرقية وغيرها!
إن مؤاخذتنا ونقدنا لكل المسئولين الكبار عن استمرار حالة الحصار، لا تنسينا ضرورة العتاب المر لأصحاب المسئولية الدينية الرسمية، فأين المواقف الشرعية لهؤلاء من تلك النازلة الإنسانية، التي يتعرض لها أهلونا في أرض بيت المقدس! إن أسلافكم من العلماء الأحرار ـ أيها المسئولون الدينيون الرسميون، لم يكتفوا في مثل تلك النوازل بمنازلتها فقهيًّا أو نظريًّا فقط، بل تحركوا عمليًّا لأجل حماية الدين والمستضعفين، فأين جهودكم العلمية والعملية لرفع الضر عمن استنصروكم في الدين فأوجبوا عليكم النصر؟!
وأين فتاواكم في حكم الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين في فلسطين؟! وما هو حكمكم فيمن يمنعون عنهم الماعون، بل يعينون عليهم العدو الملعون؟! أين فتاواكم الرسمية في حكم تضييع المسلمين في الوقت الذي ينشط فيه التطبيع مع المعتدين؟! أين موقفكم الشرعي مع المظلومين المحاصرين في فلسطين؟!
لقد رأينا بعضكم يتحمس لحد التشنج لإنقاذ تمثال بوذا في أقصى الأرض، لكننا لم نسمع منه همسة عتاب لنصرة المسلمين المحاصرين في أرض الأقصى، فماذا جرى لكم أيها المحاصرون؟! إننا نرى أن المسئولية الدينية هي أم المسئوليات، لأن كل المسئولين الآخرين قد يعتذرون ـ ويظنون أنهم معذورون ـ تعللًا بسكوتكم المطبق شبه المطلق، الذي قد يفهم منه الإقرار بمشروعية الحصار!
أما أصحاب القرار الكبار، المسئولون عن كل المسئولين؛ فنقول للمصرين منهم على الاستكبار: كفوا عن الاستهتار بالأمة، وفكوا عنها الحصار، حتى تتمكن من كسر حصار إخوانها في فلسطين وغيرها، فهي غنية برجالها وأموالها وإمكاناتها التي تبطلون فاعليتها ـ أيها المسئولون الكبار ـ وإن لم تفعلوا؛ فإن الغد هو غد الشعوب، وعندها سوف تكون هي صاحبة القرار.