التغيير "عندهم".. والجمود "عندنا"

صبحي غندور

كل عام أنتم وسائر المسلمين بخير

رابطة أدباء الشام بهيئة تحريرها وأعضائها يهنئون أبناء العروبة والإسلام في كل مكان بهذا الشهر الفضيل ويشكرون كل الأحبة الذين بعثوا بتهانيهم إلينا ونرجو من الله العلي القدير أن يمن على الأمة بالفرج القريب، والنصر المؤزر، وتحرير أرضنا وبلادنا المغتصبة وشعوبنا المسحوقة من قبل الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي.

وكل عام أنتم بخير

              

التغيير "عندهم".. والجمود "عندنا"!

صبحي غندور*

[email protected]

تشهد كلٌّ من أميركا وإسرائيل تفاعلات داخلية عميقة وحملات انتخابية وسياسية لإحداث تغيير في القيادات الحاكمة، مما يجعل المنطقة العربية في حالة ترقب الآن وانتظار حذر لما سينعكس من تغيير محتمل في السياستين الأميركية والإسرائيلية بشأن التعامل مع القضايا العربية الساخنة، جملةً وتفصيلا.

فمعظم الأحداث والتطورات الراهنة بالمنطقة العربية ارتبطت وما زالت بثلاثة محاور رئيسة: المحور العربي، المحور الإسرائيلي، والمحور الأميركي.

وبينما نجد أن المحورين الأميركي والإسرائيلي هما في حالة تكامل وتنسيق عمره من عمر الدولة الصهيونية، نجد المحور العربي في حالة تشرذم وصراعات وتباين في المواقف والمصالح بين أكثر من 20 دولة عربية.

أيضاً، بينما يتميز المجتمع الأميركي و"المجتمع الإسرائيلي" بحيوية سياسية داخلية تتغير في حصيلتها الحكومات والرؤساء عبر الاقتراع الشعبي، نجد المنطقة العربية تعيش حالة الركود السياسي ومحدودية فرص التغيير السلمي في الحكم والحكومات.

وبينما نقرأ تصريحاتٍ لمسؤولين حكوميين عرب عن "احترامهم لإرادة شعب إسرائيل في اختيار حكوماته وقادته"، فإنّنا لا نسمع منهم تأكيداً مماثلاً لاحترام إرادة الشعوب العربية في اختيار حكوماتها.

ووجه الغرابة في هذه المقارنات بين المحاور الثلاثة، أنَّ كلاًّ من "الأمَّة الأميركية" و"الأمَّة الإسرائيلية" قامت أصلاً على قهر شعوب آخرين والاستيطان مكانهم بواسطة القوة والعنف، ثم بنت هذه "الأمم" الجديدة مجتمعات مركبة من جماعاتٍ بشرية قادمة من أممٍ أخرى متنوعة في ثقافاتها ونظمها السياسية والاجتماعية، كما نجحت في بناء مؤسسات دستورية حافظت على استمرارية هذه "الكيانات" الجديدة المصطنعة، وطبّعت العلاقة بين الفئات المتعددة المنتمية إلى "الكيان" الجديد، فأوجدت "هويةً" جديدة مشتركة ل"أمَّة" جديدة مصطنعة.

أمَّا على الصعيد العربي، فإنَّ الأمَّة الواحدة ذات الثقافة الواحدة والتاريخ المشترك، تتصارع في داخلها الآن حكومات وجماعات، وتتهجّر من أرضها كفاءات وعقول وخيرات، وتتعمّق في مجتمعها الواحد دعوات لمزيد من الانقسامات على أسسٍ عرقية أو طائفية أو حتى مناطقية أحياناً !!

المؤلم في واقع الحال العربي أن الأمَّة الواحدة تاريخياً وجغرافياً وثقافياً تتنازع فيها الآن "هويات" جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" وبعضها الآخر "أممي"، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة الثوب السليم لهويتها ولا يهم ما ترتدي بعده من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهم هو نزع الهوية العربية !!

لكن، ونحن في مجال المقارنات بين المحاور الثلاثة، نتساءل ما الذي جعل "المصطنع" يتحول إلى طبيعي مستقر، ثم ما الذي جعل "الطبيعي" يترنّح ويبحث عن بدائل مصطنعة ويعيش أزمة الانقسام وعدم الاستقرار؟ هل هو فقط تآمر من الخارج أم أن أساس المشكلة يكمن في كيفية بناء الداخل وانعدام المؤسسات السليمة التي تكفل هضم التطورات التي تحصل في المجتمع وحوله؟

فلو أنَّ كيانات هذه الأمَّة العربية قائمة على أوضاعٍ دستورية سليمة تكفل حق المشاركة الشعبية في الحياة السياسية وتصون حقوق الحريات العامة للمواطن، هل كانت لتعيش ضعفاً وتنازعاً كما هي عليه الآن؟

صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تعمل على تأجيج الصّراعات الدّاخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة في تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً هو في الأوضاع الدّاخليّة الّتي تسمح بهذا التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي.

إنّ البلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التّعدّديّة في العقائد الدّينيّة والأصول الإثنيّة، وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة. لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التّصدّع الداخلي في أمّة تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماويّة، وأرض الثّروات الطّبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافي الهام. وهذه الميزات الثلاث كافية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض أو التحكّم بها والسّيطرة على مقدّراتها.

وقد كان من الطّبيعي أن تمارس القوى الأجنبيّة الطامعة بالأرض العربيّة، سياسة "فرّق تسد"، وبأن تفكّك الأمّة إلى كيانات متصارعة فيما بينها وفي داخل كل منها، وبأن تزرع في قلب هذه الأمّة جسماً غريباً يقوم بدور الحارس لهذا التّفكّك، فأصبحت الأمّة العربيّة تبعاً لذلك، رهينة لمخطّطات الخارج ولأجندة خاصّة أيضاً بهذا الجسم الغريب المزروع في قلبها.

لكن هل يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على "الآخر" الأجنبي أو الإسرائيلي فيما حدث ويحدث في بلاد العرب من فتن وصراعات طائفيّة وعرقيّة؟! أليس ذلك تسليماً بأنّ العرب جثّة هامدة يسهل تمزيقها إرباً دون أي حراك أو مقاومة؟

إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم في خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات.

نعم، هناك انقسامات سياسية حادة في أميركا وإسرائيل، لكنّها انقسامات محكومة بوسائل التغيير الديمقراطية وبالعودة إلى صناديق الاقتراع. لكن في المنطقة العربية، فإنّ الانقسامات تجاوزت الحدّ الفكري والسياسي لتصبح انقسامات عرقية وطائفية ومذهبية محكومة بمخاطر العنف المسلّح، وبالعودة إلى جاهلية الصراعات القبلية، وجاهلية المفاهيم لكلٍّ من الدين والفقه والهويّة الوطنية والقومية.

قد تكون هناك مراهنات عربية وإقليمية على متغيّرات قد تحصل بعد الانتخابات الأميركية، لكن ذلك لا يسقط أيضاً بعض المراهنات الأميركية والإسرائيلية على متغيّرات في جغرافية أوطان المنطقة وكياناتها السياسية.

لقد عاشت دول أوروبا الكثير من ويلات الحروب والصراعات الدموية والتنافس على الهيمنة، لكن مجرد إعادة بناء مجتمعات الدول الأوروبية على أسسٍ سليمة أوصلها إلى قناعة بأهمية التكامل والاتحاد فيما بينها فجمعت بين حكمٍ ديمقراطي في الداخل، وبين تكاملٍ أوروبي تجاوز صراعات الماضي كلها وتباينات الثقافة واللغة والتاريخ -القائمة في الحاضر- لكن من أجل بناء مستقبل مشترك أفضل.

وهذا ما افتقدته وتفتقده بلدان الأمَّة العربية (ماضياً وحاضراً) من تلازم حتمي بين التكامل والديمقراطية وصولاً إلى مستقبل أفضل على الصعد كافة، وبناء القدرات العملية للحفاظ على عقول الأمَّة وخيراتها، ولمواجهة ما يعترضها من تحديات ومشاريع هيمنة إقليمية ودولية.

              

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)