لا معنى لتحرير الشهباء إن لم يقترن بتحرير الفيحاء
الثورة السورية : من معركة الاستنزاف إلى معركة الحسم
وتستمر الثورة السورية ، بعد ما يقرب ست سنوات من انطلاقها ، عفوية تلقائية مباشرة . يقود واقعها حراك يفرض نفسه ،عبر شخصيات مجاهدة متحمسة متناثرة على الخارطة السورية ترسم خطواتها الحماسة والعنفوان ، والرغبة المخلصة في التصدي للتحديات ، في أطرها الدولية والإقليمية ، بالقدرات المحلية المحدودة .
يتم كل ذلك بعيدا عن معطيات عصر ، يعرف بأنه عصر التخطيط المبني على استراتيجيات ، تقع فيها كل خطوة من أي مشروع ، على مسار الهدف العام ، مقترنا بمعطيات اللحظة الزمانية والمكانية وتحدياتها.
تقع المسئولية المباشرة ، في تلقائية الثورة السورية ، فيما كان عليه وآل إليه أمرها ، على القيادات السياسية السورية أولا ، التي حشّت نار الثورة ، ثم جلست تتدفأ على أوارها ، دون مشاركة جادة في حمل العبء ، وتصويب المسار . وإذا أردنا أن نكون أكثر تحديدا ، فسنبدأ بتحميل المسئولية للمجلس الوطني ، ثم للإئتلاف المنبثق عنه ، ثم لهيئة التفاوض العليا المتولدة منه ؛ دون أن يعفي ذلك بقية القيادات السياسية للنخب والأحزاب السورية المختلفة من مسئولية تاريخية ، شخصية وعامة ، أمام الله والناس ..
كما تقع مسئولية غياب الاستراتيجية العامة الموحدة عن أجندة الثورة السورية ، على القوى الداعمة للثوار السوريين ، القوى المتشرذمة أصلا في مواقفها وسياساتها، والتي عكست تشرذمها بطريقة مباشرة على الفصائل السياسية والثورية معا . فكان لها أسوأ الارتدادات . وبدلا من أن تبادر القوى الداعمة ، وفيها دول توصف بالشقيقة والصديقة ، إلى تشكيل قيادات خبرة استراتيجية ، وغرفة عمليات ميدانية مركزية ، تواجه مخططات الخبراء الروس والإيرانيين والأسديين وتكتيكاتهم ، زادت هذه الدول من حدة التشرذم والخلاف في المكونات السياسية والثورية . ثم حمّل هؤلاء وأولئك المدنيين السوريين المسئولية الأليمة ، عن قراراتهم العجلى ، والفاقدة للناظم الاستراتيجي المتواقت مع كلي الحركة . فكان القتل والاعتقال والتدمير والتهجير من العدو . ثم الحوقلة والحسبلة ، ثم نفض اليد ، وإدارة الظهر من الصديق ، وكأن القوم كانوا يلعبون برتية ( شيش بيش ) .
سبقت مناطق سورية إلى الثورة ، وانخرطت فيها بقوة وعنفوان ، فتم احتواء بعضها ، وتم تدمير أخرى ، وما تزال مناطق تقاوم وتعالج وتدافع . بينما ظلت مدن ومناطق هاجعة قابعة متفرجة ، وكأن ما يجري حولها لا يعنيها . وأعطى هذا بشارَ الأسد وحلفاءه الفرصة تلو الفرصة ، ليصفي المناطق الثائرة بالدور ، بل وأعطاه الفرصة ليجعل من المدن السورية الهاجعة مراكز للقيادة والسيطرة ، وقواعد لانطلاق العدوان والقتل والتدمير .
إن أبسط مستويات التفكير الاستراتيجي تقرر أن رأس الأفعى في سورية يقبع في دمشق . وأن مفاصل الدولة السورية ومرتكزاتها ، تستقر في دمشق . وأن تحريك كل أدوات القتل وآلياته يتم من دمشق . وكذا من غيرها من المدن التي ارتضت أن تكون منطلقا للعدوان ، ومستودعا للرجال والعتاد ، يزج به في المعارك حسب مقتضيات التسهيلات اللوجستية . فمنها قاعدة انطلاق في الجنوب ، ومنها قاعدة انطلاق في الشمال .
وإن اعتراف المجتمع الدولي المتمادي بتمثيل بشار الأسد للدولة السورية ، بكل خطورته وتداعياته سيستمر ما دامت العاصمة دمشق وادعة هانئة ساكنة متفرجة ، ومادام السفراء يمدون أيديهم وأرجلهم فيها . هذه حقائق لا يمكن القفز عليها ، ولا تجاهلها في معطيات العلوم الاستراتيجية والسياسية .
ومن هنا ، وبعيدا عن ثورة في دمشق ، يمكن أن نصف كل جهد وجهاد على الأرض السورية بأنه جهد تكميلي ، وداعم . لقد تعودنا دائما أن نقول : إن دمشق قلب العروبة النابض ، فكيف لا تكون في سياق هذه الثورة عقل الثورة وقلبها ونبضها ، ونقطة حسمها الحقيقية . أي مقرر استراتيجي يظن أن بشار الأسد يمكن أن يسقط ، إذا نزعنا منه الرقة أو دير الزور أو حلب أو حمص أو عفرين ، حسب مقولة الشقيق الكردي المسطورة في أذهاننا منذ عقود . أو حتى حي جوبر ، دون أن تصل الثورة إلى قصر المهاجرين .
وبعيدا عن تحديد الأهداف الاستراتيجية الأساسية للثورة السورية ، ورسم أولياتها ، ستهدر الجهود على أهداف مهما بدت أهميتها ستظل ثانوية!! .أهداف قد تكون قيمتها الإعلامية أكبر من قيمتها الاستراتيجية .
آن للثورة السورية أن تنتقل إلى العمل الاستراتيجي المخطط . وآن للقائمين عليها أن يضعوا خططهم العملية لحسم هذه المحنة المتمادية ، وآن للسوريين أن يكونوا على قلب رجل واحد في مسعاهم إلى العزة والكرامة والتحرر .
إن معارك الاستنزاف التي طال أمدها ، قد استنزفت كثيرا من قدرات الشعب السوري . ومع دخول محاربين جدد إلى ساحة الصراع منهم دولة عظمى مثل روسية وأخرى مثل إيران مع تفوقهم بالقوة النارية . فإن الحقيقة الناطقة تؤكد أن صراع الاستنزاف ، لا أفق له ، بل إن نهايته لن تكون في مصلحة شعب مستضعف محدود القدرات . تتحكم في معادلاته دول متعددة . هذا الكلام ليس تيئيسا بل تأكيدا على ضرورة الانتقال من معركة الاستنزاف التي فرضت على الشعب السوري ، على غير إرادة منه . إلى معركة الحسم الأيسر سبيلا والأقرب نتاجا .
وحسم معركة هذه الثورة سيكون في دمشق . وفي تحديد الأهداف المفصلية التي تتمثل في مواقع الإدارة والسيطرة ، وشرايين الإمداد والتمويل . وهي مفاصل ومراكز وشرايين يعرفها الخبراء الاستراتيجيون المختصون جيدا . يعرفون كيف يحددونها ، وكيف يتم الوصول إليها ، وما هو أثرها العملي في حسم المعركة . لنبعث الأمل ونقترب بالشعب السوري إلى مظلة الأمان والاستقرار . إن السيطرة على الكثير من هذه المفاصل والمراكز وقطع هذه الشرايين أقلّ كلفة ، من كثير من المعارك والأهداف التي يخوضها الثوار ، ويضحون في سبيل الانتصار فيها .
وبصراحة أكثر فإن أعداء الشعب السوري ، الذين ساقوه في مساقات ( الاستنزاف المتبادل ) ما زالوا يعتبرون استهداف هذه المفاصل والمراكز ، خطوطا حمراء ، ومازالوا يحولون بين الثوار وبين الطرق التي تحسم المعركة ، ليتسببوا للسوريين بالمزيد من القتل والدمار ؛ حتى أصبح السكوت على هذه المؤامرة ، والاندياح مع السياق المتاح نوعا من الخيانة ، لسورية الإنسان والحاضر والمستقبل .
كلنا اليوم مع أن نرى حلب الحبيبة مدينة محررة ، موحدة ، تدار من قبل إدارة مدنية من أبنائها ؛ ولكننا لسنا ، مع توسيع ساحة القصف والقتل والتدمير للعدوان الروسي والإيراني والأسدي ، ثم لا نملك غير أن نستنكر ونشجب وندين . إن أول أبجديات التكتيك العسكري ، قبل إحراز النصر ضمان حماية النصر والاحتفاظ به .
يجب أن ترتفع الأصوات للمطالبة باستراتيجية ثورية منتجة ومنجزة. لسنا مع توسيع دائرة المعاناة الإنسانية للمستضعفين من أبناء سورية ، ولسنا مع إطالة أمد هذه المعاناة . إن أول مقتضيات استراتيجية الحسم أن تكون هناك قيادة قادرة على استنفار السوريين ليثوروا ثورة رجل واحد ، على قلب رجل واحد . حتى لا نعطي عدونا الفرصة للانفراد بالبلدات والمدن والمناطق واحدة بعد أخرى ..
الإنسان والعمران في حوران وفي دمشق وفي حمص وفي حماة وفي الساحل وفي حلب وفي إدلب وفي دير الزور والحسكة في فقهنا الإنساني والشرعي والسياسي واحد ، وهذا فقه له حقيقة ومقتضيات ، ليس منها أن يذبح أخ في مدينة ويتفرج أخ في مدينة أخرى عليه. أو يعيش في بلهنية وكأن الأمر لا يخصه ولا يعنيه . وكلنا مسئولون أمام الله ، وأمام التاريخ ، ولكن مسئولية الذين توسمو مقاعد القرار أكبر .
إن استدامة المعركة ، والانخراط في حروب استنزاف متطاولة ليست من مصلحة الثورة ، وليست من مصلحة الشعب السوري ، الذي أنهكه القصف والحصار واللجوء والتشرد . ولذلك لا بد من وضع الخطط لحسم المعركة لمصلحة ثوارها . وليس استدامتها لمصلحة عدوهم . إن حسم الثورة يكمن في استهداف رأس الشر ومؤسساته في وكره الأول. وتوفير كل الجهد للعمل على هذا المحور . فحين يسقط بشار الأسد في دمشق ستسقط جميع الأفرع والتوابع له تلقائيا .
إن قيمة الطلقة الواحدة على مؤسسة من مؤسسات الشر في دمشق ، يعدل مائة قذيفة في سواها . وقد آن الأوان للإفصاح عن هذه الحقيقة ، التي يراوغ عنها الكثيرون .
ويكفي لندلل على هذه الحقيقة أن نذكر ، كيف يقوم بشار الأسد وحلفاؤه ، بإخراج فرسان الغوطة الأماجد من بلداتهم إلى الشمال السوري ، إدلب وما حولها في دلالة ، مهمة على أن دمشق هي الثغرة التي ، يجب أن يوفر لها الأمان .
أليس الرد التلقائي على عملية تفريغ حزام دمشق من رجاله ، أن يجدد المقاومون طرقهم لاختراق الهدف الذي يبذل العدو كل جهوده لحمايته ؟!
آن الأوان للثورة السورية للخروج من دوامة العفوية والتلقائية والآنية . آن الأوان للتوقف عن الاستهانة بالتضحيات . آن الأوان لوضع حد لسياسات الأثرة والاستئثار ..
كان الله في عون سورية ونصر ثورتها ، وحمى إنسانها وعمرانها ..