الثورة السورية وغياب المبادرات العملية، كفريا والفوعة محطة أخيرة
منذ صفقة تسليم حلب للروس ولبشار الأسد في شهر كانون الأول من عام 2016 ، وما كشفه هذا الحدث التحولي من تغيرات واختلالات في موازين القوى ، ثم ما تبعه من انكشاف سياسات الرئيس الأمريكي ترامب في سورية ، ثم تشاغل الدول العربية الداعمة – في ظاهر الأمر– للثورة السورية ، بخلافات بينية مفتعلة ، ثم فيما جرى على غوطة دمشق ، وعلى درعا ، وعلى جنيف وأستانا وسوتشي ....تعيش المعارضة السورية على المستويين السياسي والفصائلي ، حالة من انعدام الوزن ، وطيش الموقف ، وفقدان الرغبة في فعل أي شيء ، غير النواحة والندب وتبادل الاتهام والتراشق بما لا يليق ..
كانت صفقة تسليم حلب هي المعلم الأول الساطع القاطع الواضح الفاضح على جملة المتغيرات السلبية الدولية والإقليمية ، نقول المتغير الساطع لنلزم برؤيته الأعشى والأعمش ، أما قراء السياسة الحقيقيون فقد قرؤوا الأمر بحقه منذ مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الأول ، الذي انعقد في تونس ، والذي كتب بيانه الأخير معالي الوزير التونسي رفيق عبد السلام ، وأشرت عليه السيدة هيلاري بممتاز .
منذ ذلك اليوم من عام 2012 كان على ( القادة !!!!) السوريين أن يعيدوا حساباتهم ، ولم يفعلوا ، وظلوا في ريبهم يترددون ، وكان ذلك تفريطا في حق الثورة : العرض المنتهك ، والدم المسفوك وأي تفريط ..نعم كان ذلك في العام 2012 تفريطا وتضييعا وإثما ولكنه بعد 2016 لم يعد كذلك فقط ؛ فقد أصبحت له أسماء أخرى نأبى أن نذكرها لكي لا نعود بالأمور إلى دوامة التراشق والتنابذ المذموم ..
قائد الأمر الواقع ، وهو كل من ارتضى لنفسه موقع قيادة ، لدولة أو ثورة أو فريق أو حزب أو جماعة أو مجموعة عمل أو رحلة كشفية...هذا القائد يناط به أن يعيد ، مع كل متغير حقيقي، النظر في خططه ، ورسم أهدافه ، وتحديد طريقة تسميتها ، وإعادة فرز قواه ، وترتيب أوراقه ، وتعديل خططه ، وإطلاق المبادرات الحقيقية المسعفة والمساعدة والمساندة ؛ التي تعزز مواقع الصديق ، وتقلب الطاولة على العدو ..ولكن كل ذلك غاب عن الثورة السورية ، ولم يحدث منه شيء خلال ثماني سنوات ولو مرة واحدة ، على المستوى العام لقياداتها الوطنية المعترف بها عالميا وإقليميا ، ولا على مستوى مكوناتها الوطنية الحزبية والفصائلية ..
وفي السياق يجب أن نبين إن كل بيانات الإشادة والتعاطف والشجب والتنديد والإدانة والمناشدة ، لا تشكل مبادرات حقيقية لا بالمفهوم السياسي ولا بالمفهوم العملياتي ونقصد تلك المبادرات المحدودة التي يمكن أن يقوم بها قائد أي سرية أو فصيلة أو جماعة ليحقق ذاته ، ويوهن عدوه .
ماذا نقصد بالمبادرة السياسية ؟!
ولتوضيح ما نقصد بالمبادرة السياسية ، هذا أنموذج عملي لها كان بطلها الرئيس رجب طيب أردوغان .
ونذكر هذه المبادرة بغض النظر عن تقويمنا لها ، تحسينا أو تصويبا أو تخطئة أو ...
عندما شعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الناتو عموما ، والولايات المتحدة خصوصا ، قد خذلوه ، بعد أن قام سلاح الجو التركي على إسقاط أول طائرة للروس من عضو في حلف الناتو منذ الحرب العالمية الأولى ، وذلك في شهر تشرين الثاني / نوفمبر / 2015 ، أقدم على المبادرة التالية ، التي غيرت وجه السياسة ، ليس في تركية وحدها ، بل في المنطقة والعالم ..
ففي أيار / مايو / 2016 أقال الرئيس أردوغان رئيس حكومته أحمد داود أوغلو الذي تم في عهده إسقاط الطائرة أي بعد ستة أشهر من إسقاطها ..ومنذ ذلك التاريخ تغيرت اللهجة التركية الرسمية ، في الحديث عن الروس وفي الحديث عن الأمريكان وفي الحديث عن إسقاط الطائرة الروسية ، الذي تحول من عمل بطولي إلى خطأ فردي يغمز أحيانا من منفذه ..
وفي أواخر شهر حزيران / يونية / تحدث أردوغان بجرأة السياسي المسئول الذي يعلم ماذا يريد ، وقدم اعتذارا ملفوفا ثم صريحا للرئيس بوتين ، وللدولة الروسية، وكان لدى الرئيس بوتين ، هو الآخر ، أسبابه للمسارعة لقبول الاعتذار ، وللبدء برفع ما فرض من عقوبات على تركية .، وكان من هذه الأسباب طبعا إيجاد شريك مساعد في التخفيف من حدة التورط الروسي في سورية.
ثم في مطلع شهر آب / اغسطس / 2016 قام السيد رجب طيب أردوغان بزيارة موسكو ، والدخول في حلف جديد مع موسكو يعيد التوازن للخلل في السياسات الغربية ، وكان لهذا الحلف انعكاسه المباشر على ما جرى ويجري في سورية ..
مرة أخرى عرض التجربة ليس للتقويم . وأبسطه أن التقويم من وجهة النظر التركية سيختلف عن التقويم من وجهة النظر السورية .
قراء السياسة السوريون أدركوا منذ التصريحات الأولى لابن علي يلدريم أن المبادرة التركية المحترمة لأنها خيار أصحابها ، تقتضي من السوريين مبادرة خاصة بهم ، تدفع عن حلب قبل سقوط حلب بأربعة أشهر .
وعلى الرغم من حجم المتغيرات العاصفة والمتعددة التي نزلت على الأرض السورية ، والتي كل واحد منها يفوق أطنانا ما استشعره السيد أردوغان من خذلان غربي ، إلا أن مبادرة واحدة لائقة ببعض هذه المتغيرات لم تصدر عن أي جهة أو تجمع أو جماعة أو فصيل في المعارضة السورية !!
كانت مواقف المعارضة السورية أشبه بذلك الذي يظل يردد أن عمره أربعون عاما لأن الرجل عند كلمته .
أما لماذا غابت المبادرات العملية النوعية المستدركة والمتلافية والمسددة كتلك المبادرة التي أقدم عليها السيد أردوغان لشعبه وبلده فأمر تحليلها يطول . وأقل كلام نقولها فيها : إن غياب القائد المبادر هو السبب الأول . وأول شرط في القائد المبادر أن يكون واثقا من نفسه ( إذا قيل قدمها قيسٌ تقدما ) ولا نريد أن نزيد ..
ونشهد اليوم مشهدا رديفا لما شهدناه في حمص والقلمون وداريا والزبداني ومضايا وحلب والغوطة وحوران ..
مشهد إخراج أهل كفريا والفوعة من بلديهما في لعبة شيطانية خبيثة حبك أطرافها بوتين مع الولي الفقيه مع بشار لأسد ..
إن أبسط ما يعلمه كل إنسان امتلك مشاعر إنسانية وعقلا سليما أن الإخراج من الأوطان هو عملية اقتلاع للجذور ..
لا يجوز لأحد أن يصدق أن أهالي كفريا والفوعة فرحون بالتهجير ، لا يجوز لأحد أن يصدق أن أهالي كفريا والفوعة يحلمون في عالم بوتين وبشار بجنات تجري من تحتها الأنهار..
أهالي كفريا والفوعة مواطنون سوريون عاشوا في محيطهم وفي مجتمعهم منذ قرون لم يضارهم في عيش أحد قبل بيت الأسد وقبل حزب البعث ؛ ثم قال لهم من يريد أن يستثمر في قلتهم وفي خوفهم : إن وراء حدود بلداتكم وحوشا كاسرة تريد أن تفتك بكم فاصطفوا خلفنا..
وكان إثمهم أنهم صدّقوا المستبد الفاسد المفسد ...وكان إثم بعض الناس من حولنا وحولهم أنهم لم يعرفوا كيف يردون على المستبد ويكذبونه ..
فهل من مبادرة اليوم يتبناها رجال سوريون حقيقيون يقولون : إن إخراج السوريين من مدنهم وبلداتهم ، مهما تكن خلفياتهم الدينية والمذهبية والعرقية ، ليست مطلبا ثوريا ..ولا هي فعل أخلاقي ولا إنساني.
هل من مبادرة عملية جادة يؤكد عليها أهل الرشد والحزم تنص على أن الانتقام من الناس على خلفياتهم الدينية والمذهبية والعرقية لم تكن هدفا ثوريا ولن تكون ، على عمق ما عاش مجتمعنا من جراح . مبادرة تؤكد أن كل طروحات النقمة والانتقام التي تلتوي بها ألسنة البعض ( اتهاما – وادعاء ) إنْ هي إلا مكر دُبر بليل لتشويه الثورة والثوار وقطع الطريق عليهما ..
ألا قوة حقيقة ضامنة إقليمية أو فصائلية تقول لأهل كفريا والفوعة ، أنتم آمنون في أرضكم ، ما كففتم عن الشر والحرب أيديكم .
لقد علمتم اليوم أن بشار الأسد ليس لكم بحام ولا كافل ولا ضامن ، وأن أمنكم وأمن أجيالكم من أمن المجتمع الذي تعيشون فيه ، فتوقفوا عن الخوف تأمنوا ، وأول إمارات الكف عن الخوف أن لا تكونوا أدوات بيد من يريد أن يستخدمكم في الدفاع عن مشروع استبداده وفساده ..
ليس من الجميل أن يخدعنا أهل الخبابة والمكر ، ولكن أهل الحكمة والحصافة والعقل لن يعدموا اتفاقية بشروط وطنية محكمة يكون فيها المحتل وعميله أول الخاسرين
المشهد السوري بحاجة إلى الكثير الكثير الكثير من المبادرات الكلية والجزئية السياسية والمجتمعية المشروعة والمجدية بل الضرورية وكل ذلك ممكن قريب . ولكن الذين لا يعلمون لا يعلمون.