لا حرّية من دون ثمن.. والخنوع للعبيد
يقول أعداء ثورات الربيع العربي ومنتقدوها: إنّ هذه الثورات خرّبت البلاد العربية، وقسّمتها...فلو أنّ الأنظمة العربية الاستبدادية بقيت، لكان أفضل من هذا الحريق الذي يلتهم العرب...!!!
ويُفصِّلون دليلهم قائلين:
ـ انظروا إلى مصر، آلاف القتلى، وأكثر من سبعين ألف معتقل في السجون المصرية، يموتون كلّ يوم ألف مرّة، ودمار في الاقتصاد...أليس البقاء في عهد مبارك أفضل بألف مرّة من النظام الانقلابي السيسي العجيب !!؟
ـ انظروا إلى ليبيا، آلاف القتلى والشهداء، وخراب في البلاد، ومشروع لتقسيم ليبيا...أليس البقاء في عهد القذافي الاستبدادي أفضل من التقسيم أو قذافي جديد باسم حفتر...!!؟
ـ انظروا إلى اليمن السعيد، قد أصبح اليمن الباكي، المنتحب، الممزّق، الذي تأكله الحروب، وإيران والحوثيون يحطّمون رؤوسَ العرب في يمننا الحزين...أليس علي عبد الله صالح أفضل من بلد مقسّم، أو بلد عربي تحكمه إيران..!!؟
ـ انظروا إلى سوريا الجريحة، 600 ألف قتيل، مليون معاق، 3 ملايين منزل مدمّر، 300 ألف معتقل، 8 ملايين لاجئ، 7 ملايين نازح، 8 آلاف مدرسة مدمّرة...وصراع عالمي على أراضيها، ومشروع تقسيم على الأبواب...أليس الأسد الاستبدادي الذي سيورّث الحكم لابنه حافظ الثاني أفضل من حرق سوريا..!!؟
فماذا نقول لهؤلاء المنتقدين أو الأعداء أو الشامتين..!!؟
نقول لهؤلاء: لقد أخطأتم ثلاثة أخطاء قاتلة:
ـ الأوّل نفسي: وهو تفضيلكم عيش العبيد على العيش بحرّية، فالعبيد يأكلون ويشربون ويخدمون سيّدهم؛ فهم رضوا أن يعيشوا عيشة البهائم، وأنتم بطلبكم أن نبقى عبيداً، فقد أنزلتم الشعوبَ العربية إلى هذه المرتبة الدّنية، فما قيمة الإنسان من دون حرّية..!!!؟
فلم يُخلق الإنسانُ ليأكل ويشرب ويتزاوج كباقي المخلوقات؛ بل خُلق ليكون حرّاً يخلف اللهَ في أرضه؛ ليصنع الحضارة العظيمة...
ـ الثاني عقلي: وهو ظنّكم أنّ الحرّية تأتي من غير ثمن، وهذا رأي خيالي لا يُقرّه العقلاء، فالعقل يقول: لا حرّية من دون دفع الثمن، فالغنم بالغرم.
ـ والثالث تاريخي: فقوانين التاريخ تقول لنا: إنّ الطغاة والظلمة والمستبدين والمستعمرين...لا يرحلون إلا بالثورات ضدّهم، ولا ثورات من دون تضحيات...وصفحات التاريخ تروي لنا آلاف الأمثلة على هذه الحقيقة الصّارخة...ولنأخذ من التاريخ الأمثلة الآتية:
ـ عاش موسى عليه السلام في بيت فرعون، وبالتالي كان يملك كلَّ شيء؛ الجاه والسّلطة والمال...لم ينقصه شيء من عظمة الدنيا...لكنّه كان من عشّاق الحرية، لم تُخدّره الدنيا، فكيف يعيش حرّاً وقومه من بني إسرائيل يعيشون عبيداً تحت سلطة فرعون ..!؟
جاء إلى فرعون يطالب بالحرّية، فماذا قال له فرعون !؟
قال له: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }[الشعراء:18].
يريد فرعونُ أن يُذكّر موسى ـ عليه السلام ـ إحسانَه عليه، وبالنّعم العظيمة التي أغدقها عليه...لكنْ كان جواب موسى عليه السلام : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }[الشعراء:22]. أي لا قيمة لنعمك علي، ولا لنعيمي، مقابل عبودية بني إسرائيل، فحريّة بني إسرائيل هي النّعمة العظمى، ولا نعمة مع العبودية...!!!
فتابع موسى ـ عليه السلام ـ ثورته على فرعون، وكان السّحرة أوّل شهداء الحرية، وفي النهاية كان فرعون جثّة هامدة؛ ليكون عبرة للطغاة المستبدين...!!!
ـ وفي عهد الرسالة المحمّدية، تحمّل النّبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وصحابتُه الكرام أقسى أنواع التعذيب، ويكفي أنّهم قد حوصروا ثلاث سنوات، ذاقوا من خلالها كلّ أنواع الويلات...لكنّهم صبروا، فأوصلوا رسالتهم إلى العالم، ثمّ صاروا أساتذة العالم من دون منازع...
ـ ومحاكم التفتيش في أوربا، بقيت مئات السنين في العصور الوسطى، تمارس أقسى أنواع الوحشية على طالبي الحرية في أوربا، فمن تقطيع الأعضاء عضواً عضواً، والذبح بالسكاكين، ودفنهم أحياء، إلى الحرق بالنار...لكن تحمّل الأوربيون، ثمّ نالوا حريتهم، وعندما نالوا حريتهم، صنعوا حضارتهم...
ـ وفرنسا لم تنل حريتها لو لم تقم الثورة الفرنسية عام 1789م واستمرت حتى عام 1799م، وكان من نتيجة هذه الثورة أن تمّ اعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته في يناير 1793م، فقطعوا رأسيهما بالمقصلة في ساحة الثورة أمام الجماهير.
وقررت مجموعة من الباريسيين المنتفضين في المدينة يوم 14 يوليو السيطرة على مخازن السلاح والذخيرة الموجودة داخل قلعة الباستيل، والتي كان ينظر إليها كرمز للسلطة الملكية في البلاد، وبعد عدة ساعات من القتال، سقط السجن في بعد ظهر ذلك اليوم بأيدي المنتفضين. وعلى الرغم من طلب وقف إطلاق النار من قبل الحكومة، إلا أنّ مجزرة قد وقعت بشكل متبادل بين كلا الطرفين خلال عملية الاقتحام، وأيضاً فإنّ محافظ السجن ماركيز دي برنارد قُتل، وقُطع رأسُه ووضع على رمح، وسار المتظاهرون به في شوارع المدينة.
وأُعدم عدد كبير من المدنيين من قبل محاكم ثورية خلال عهد الإرهاب، وتتراوح التقديرات بين 16000 إلى 40000 قتيل.
وانتشرت أعمال العنف العشوائية، والسّرقة، وامتدّت من باريس لمختلف أنحاء البلاد، وقام الكثير من طبقة النبلاء خوفاً على سلامتهم، بالانتقال إلى البلدان المجاورة؛ وكثيرون منهم، موّلوا ما عرف لاحقاً بالثورة المضادة.
وبالنتيجة انتصرت الثورة، وأصبحت الثورة الفرنسية رمزاً لأوربا والعالم في الحرّية...
ـ الثورة المكسيكية 1910 ـ 1920م، خلّفت 2 مليون قتيل، وبعدها جاءت الحرّية...
ـ والثورة البلشفية في روسيا عام 1917 ـ 1921م، أدّت إلى مقتل ثلاثة عشر مليون نسمة، وتهجير ما يقرب من مليون نسمة هجرة شبه دائمة، وانتشرت المجاعة فمات الملايين من المجاعة، وانتشرت الأمراض، حيث كان حوالي 3 ملايين شخص يموتون من التيفود وحده في عام 1920م، وكثر التشرّد؛ فقبل 1922 كان هناك ما لا يقل عن 7 ملايين من أطفال الشوارع في روسيا.
وبعد هذه الخسائر أصبح الاتحاد السوفييتي دولة عظمى، وأصبحت القطب المنازع لأمريكا...
ـ حرب فيتنام ضدّ الولايات المتحدة الأمريكية 1955 ـ 1973م: بلغت خسائر الفيتناميين مليون ومئة ألف قتيل، و3 ملايين جريح، و13 مليون لاجئ...
لكن كانت النتيجة وحدة فيتنام وحريتها...
ـ والثورة الجزائرية التي اندلعت في 1 نوفمبر 1954 ضدّ المستعمر الفرنسي ودامت 7 سنوات ونصف. استشهد فيها أكثر من مليون ونصف مليون جزائري.
فلولا هذه التضحية العظيمة لما نالت حريتها...
وبعد كلّ ذلك نقول لمنتقدي الثورات العربية وأعدائها:
لو دَفَعَ الشعبُ العربي عشرات الملايين من الشهداء، ولو تدمّر اقتصادياً...فهذا أمر طبيعي أمام أن ينال حرّيته...
فالشعب الحرُّ يصنع الحضارة، ويدخل التاريخَ المشرق من بابه الواسع...
فالحرية تعني البناء، وتعني العطاء، وتعني سباق الزمن، وتعني الخلاص من المحن...
والشعب المـُسْتَعْبَدُ يصنع التخلّفَ والتبعيّة، ويدخل التاريخ الأسود من بابه الواسع...
فالعبودية تعني الخراب، وتعني السراب، وتعني الاستبداد، وتعني بحاراً من العذاب...
فيا من تُريد الحرّية من دون ثمن، هنيئاً لك ذلّ العبودية والخنوع وأنواع الشجن...!!!