دماء السوريين تنتصر
لم يحتج نظام الأسد الأب في العام 1982 إلى قوات أجنبية لتثبيت حكمه وقمع أهل حماة، ولم يحتج لطيران الاتحاد السوفييتي، ولا لفيلق القدس الفارسي، أو لرايات ميليشيات الحسين وآل البيت، وآيات الله بأشكالها وألوانها ومسمياتها المختلفة لقمع الشعب السوري الذي انتفض في حماة.
تمكن جيش النظام من قمع انتفاضة أهل حماة عام 1982 فاحتل المدينة وقسّمها إلى مربعات، ثم نكل بالناس ونهب بيوتهم وأهان كبارهم واعتدى على حرمات بيوتهم وقتل وزج بالآلاف في السجون، دون أن يسمع العالم بما يجري سوى القليل! حتى أن معظم وسائل الإعلام العربية تجاهلت تلك المجازر، باعتبارها شأنا داخليا كما يبدو، وإن ذكَرتها فبشكل عابر، أو بشكل كيدي، وتصفية حسابات بين الأنظمة وليس مبدئيا، تنتهي بمكالمة هاتفية أو مصافحة في لقاء قادم.
واعتُبر من يثير قضية تلك المجازر بأنه عميل للصهيونية والاستعمار والإمبريالية، ووجهت التهمة لحركة الإخوان المسلمين ووُصفوا بأنهم إخوان الشياطين، وبأنهم مدسوسون، رغم سقوط ضحايا من المسيحيين والبعثيين من أهل حماة، لمجرد تضامنهم مع عائلاتهم وأبناء مدينتهم وذلك لتلقين الناس درسا قاسيا لا ينسى.
كانت المسافة الزمنية قصيرة بين حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 ومجزرة حماة عام 1982، وكان النظام ما زال قادرا على استخدام ورقة حرب تشرين العربية ضد إسرائيل، فقد كانت بريق أمل، رغم ما تمخّض عنها من اتفاق فض اشتباك مذل مع الاحتلال المستمر حتى يومنا هذا.
إلا أن ورقة تشرين بدأت تذوي، عندما ترك النظام الجولان محتلا وأشغل نفسه وقواه في لبنان لقمع كل من يعارض خطه ومصالحه كنظام وبالذات القوى التقدمية، متقلبا حسب مصالحه تارة لليمين وتارة لليسار! ثم دعمه لإيران في حربها طويلة الأمد ضد العراق، العراق الذي دعمه في حرب تشرين وأوقف الهجوم الإسرائيلي المضاد في حرب أكتوبر وأنقذ الجبهة السورية من الانهيار الكامل في الجولان، ثم أسهم في التحالف الأمريكي الدولي في ما سُمي بحرب «تحرير الكويت» بثلاثين ألف جندي، على أمل الحصول على غنائم سواء من الكويت بعد تحريره أو من العراق بعد احتلاله، مثله مثل أي غازٍ أجنبي. هكذا صار لبنان والفلسطينيون والعراق وقمع الشعب السوري وضمان توريث السلطة شغل النظام الشاغل، والهدف الأسمى هو الحفاظ على السلطة لآل الأسد والحلقة المحيطة بهم. سقطت الأقنعة عن النظام، موقفا بعد موقف، ومجزرة بعد مجزرة، وكلما طال أمده في السلطة، ازداد التذمر وساد الفساد وتقلصت مساحات الحريات وتمركزت الصلاحيات بالدائرة القريبة حول آل الأسد وأنسبائهم والمخلصين جدا من البعثيين الممسكين بزمام الجيش والاقتصاد السوري.
بعد أكثر من ثلاثة عقود على مجزرة حماة، تململ شعب سوريا، وبعد كل ما صار الجميع يعرفه من جر الثورة إلى العسكرة لذبحها ظهر جيش النظام ضئيلا هزيلا عاجزا. واضطر النظام على الاستجارة بالقوة العسكرية الثانية في العالم، فتبجّح قادتها بأنهم يجربون أسلحتهم الحديثة بنجاح في سوريا، وبتنسيق أرضي مع آيات الله الإيرانية والميليشيات الكربلائية وأجهزة المخابرات الملحدة والكافرة والعلمانية العربية والعالمية والصهيونية خاضت رايات الحسين وأبو الفضل وبوتين بدماء السوريين.
هكذا بدأ يسترجع النظام توازنه، وبعد جهود كبيرة من حلفائه راح يعيد احتلال المواقع التي طُرد منها، بعدما حُرمت المعارضة من أي سلاح مضاد للطائرات، في تآمر دولي أمريكي صهيوني روسي سوري إيراني عربي على ثورة الشعب السوري، إلا أن من يدخل مدن وقرى بلاده بقوة السلاح وبعد حصار طويل، وبإسناد من قوى أجنبية لا يمكن أن يكون رئيسا لها، بل هو مغتصب للسلطة في بلاده.
في معركة كربلاء التاريخية استشهد بضع عشرات من أصحاب الحسين وأسرته عليهم السلام، وقيل إن دماء الأبرياء انتصرت على السيف. وها قد عاد التاريخ ولكن بمجرمين يرتدون أقنعة الحسين وأبو الفضل العباس وأصحاب الحسين عليهم السلام، بينما هم يثخنون قتلا وهدما وتهجيرا بشعب سوريا المظلوم والعظيم، إن ما نراه الآن هو دماء السوريين المظلومين تنتصر على سيوف المستبدين والطائفيين والمرتزقة من الروس والفرس وأذنابهم.
السوريون هم المحاصرون وهم الذين يموتون جوعا وعطشا، ويستشهد منهم كل يوم ألف حسين وحسن وجعفر وعلي ومحمد، دماء الحلبيين تنتصر على سيوف الغزاة المتنكرين بعمامات الحسين المدعومة بطائرات بوتين.
أعجب لإعلام يسمي هذه المجازر انتصارات، وهي الهزائم في جوهرها، فمن يحكم شعبه بقوة طيران وأساطيل وفيالق الأجنبي مهزوم، وهو ليس شرعيا مهما حصل على أختام بشرعيته من دول معادية للشعوب العربية وتحررها.
تستطيع تضليل العالم كله، وتزعم أن الإرهابيين اتخذوا من أكثرية شعب سوريا دروعا بشرية، وقد يصدقك كثير من البلهاء، ولكنك تعرف الحقيقة، بأن الشعب السوري تقيأك ولن يقبل بحكمك بعد اليوم، وسوف ينتظر فرصته ليضع الأمور في نصابها الصحيح.
من يظن أن الثورة العربية المعاصرة انتهت أو ستتوقف عند هذا المفصل التاريخي فهو مخطئ، من يظن أن بقدرة روسيا وإيران وحزب الله وأمريكا واللوبي الصهيوني وترامب وغيرهم إنقاذ أنظمة عافتها شعوبها فهو واهم. الجسد العربي واحد، وأي تململ في أي قطر عربي ستكون له ارتدادات وأصداء على الجميع، ولا أحد يستطيع التنبؤ أين ستنفجر الانتفاضة المقبلة وفي أي قطر عربي ولكنها قادمة لا محالة، وهناك تململات ورائحة تحركات (التململ في السودان كمثال). ما نستطيع تأكيده، هو أن حلب بداية وليست نهاية، الشعب السوري خصوصا، والعربي عموما لن يغفر للنظام ومناصريه جرائمهم، وأمتنا المذبوحة من المحيط إلى الوريد ما عادت تتحمل أكثر ولن تتراجع، وسوف تواصل ثوراتها وانفجاراتها حتى تحقق أحلامها بالحرية والكرامة مثل كثير من شعوب الأرض.