قمر أحمر للشام
بين موتين تعيش الثورة السورية الذبيح علاماتها الأخيرة:
موت في سجون النظام، فقد أعلن في الأيام القليلة الماضية عن مقتل أكثر من سبعة آلاف سجين في زنازين النظام، من بينهم ألف شهيد من داريا وحدها.
وموت برصاص الداعشيين الذين نقلتهم باصات النظام إلى بادية السويداء، حيث ارتكبت مجزرة وحشية جديدة في السويداء.
وبين الموتين انطفأ القمر وجاء موت الفنانة مي سكاف في منفاها الباريسي، كي تكتمل صورة الذبيحة السورية، التي تقدم قربانًا على مذبحين:
مذبح انحطاط النظام العربي، الذي تحول إلى أداة في خدمة القوى الاستعمارية التي تحتل سوريا اليوم، وتستبيح المشرق العربي، وتسهم في وأد فلسطين.
ومذبح القيم الأخلاقية في عالم فقد القيم وحوّلها إلى ممسحة، وتحول من متفرج على المذبحة السورية المستمرة منذ سبع سنوات، إلى مصفق ومؤيد للنظام الاستبدادي وحماته الروس، وجزء من لعبة تقاسم النفوذ والصراع على فتات سوريا بين الروس والأمريكان والإسرائيليين والإيرانيين والأتراك.
أصيب قمر الشام بالخسوف قبل حادثة خسوفه، وصارت الدماء تقطر منه، دماء حمص ودماء حلب ودماء الغوطة ودماء درعا ودماء السويداء…
إنه عار العرب بالعرب، عار الأنظمة المستبدة، وعار النخب التي خرست أو بررت، وعار العالم الذي تفرج على المسلخ السوري.
الثورة التي لم يكن لها سوى مطلب واحد هو استعادة الكرامة الإنسانية والدفاع عن حق الإنسان في أن يكون إنسانًا، قام نظام آل الأسد بتلويثها بالدم منذ لحظة انطلاقتها مع أطفال درعا، وانتشر الدم في كل مكان، حَمَلةُ الورود وقناني الماء في داريا أعيدت جثثهم مشوهة إلى أهلهم، متظاهرو ساحة الساعة في حمص أُغرقوا في الدم والأشلاء، وكنا نرى بعيوننا أشرطة الفيديو التي وزعها جلاوزة النظام على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنقل صور التعذيب الوحشي وامتهان الكرامة واحتقار الحرية وإجبار الشبان على السجود أمام صورة الديكتاتور وتقديسها.
كم كنا سذجًا حين اعتقدنا أن صور التعذيب هي سلاح إدانة للنظام، فالإدانة كانت تفترض وجود نظام قيم إنساني يمكن الاحتكام إليه، أما حين يطرد العرب من نظام قيم عالمي يترنح، فإن هذه الصور والمشاهد تحولت إلى أدوات في أيدي النظام الاستبدادي من أجل إخافة الناس وقهرهم.
لم يكن شعار «الأسد أو نحرق البلد»، صحيحًا، فالهدف لم يكن إحراق البلد فقط، البلد مسألة تفصيلية أمام المهمة التي انتدب النظام نفسه لها، وهي إذلال الناس وتخييرهم بين الموت وعبادة الحذاء.
هكذا أسس النظام العربي دينًا جديدًا اسمه عبادة الحذاء، انحنت الرؤوس وانطفأ الضوء في العيون، هذا ما يريده المستبد؛ أن يكون المواطن أعمى لا يستطيع أن يرى، وأبكم لا يحق له أن يحكي.
ما معنى هذا العدد المخيف من الذين قضوا في سجون النظام؟ ما معنى البراميل والكيميائي؟
ما معنى داعش والنصرة وجيش السلام وكل نفايات أنظمة النفط التي أُرسلت إلى سوريا من أجل تدمير قيم الثورة، فقامت بإضفاء شرعية وهمية على النظام؟
ما معنى الميليشيات التي أرسلها الإيرانيون من كل مكان من أجل الفتك بالجسد السوري وإطفاء روح الناس بالطائفية؟
لن نعتب على غرب لم يكن لنا سوى عدو، من أيام الاستعمارين الفرنسي والبريطاني إلى الزمنين الصهيوني والأمريكي. العتب لا معنى له في هذا السياق، فما يجري اليوم هو محاولة يقوم بها الطغاة لتلقين الشعوب درسًا في لا جدوى المعارضة والاعتراض، لأننا ابتلينا بأنظمة مملوكية جديدة تتستر بشعارات قومية من أجل أن تستبيح كل شيء.
يقول لنا قمر الشام المضرج بالدم حكمته البليغة، فالحكمة هذه المرة تولد في الألم وبالألم، يقول لنا قمر الشام أن علينا هنا في سوريا ومصر وفلسطين ولبنان والعراق أن نبدأ من جديد.
أشعر أن الكلام عن البدايات في زمن النهايات المأساوية بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا، لكننا لا نملك خياًرا آخر، واجبنا أن نعطي موتنا معنى كمقدمة لنكتشف معنى الحياة من جديد.
الموت السوري الكثير والموت العربي الكبير، يحتاجان إلى ثقافة جديدة تصوغ معناهما، وإلى بناء نظام قيم متماسك، يكون مقدمة لاستعادة القيم الأخلاقية التي أطيح بها في هذا الليل العربي الطويل الذي أجهض فجر الحرية لحظة بدايات تكوينه.
لم يعد في استطاعة الكلمات أن تتشكل بالمعاني إلا حين نكتشف معنى موتنا، ونضعه في سياق معركتنا التي قد تتخذ أشكالًا شتى من أجل تأسيس قيم الحرية والمساواة والعدالة.
من أين نبدأ؟
نبدأ من طريق دمشق، المدينة التي صنعت اسمها من كلمتين: دم وشق، دم هابيل الذي شق الأرض بعدما قتله قابيل، كما تقول أسطورة أقدم المدن وأبهاها.
نحن لسنا في زمن الأساطير، وقاتِلُنا ليس أخانا، قاتلنا هو وحش السلطة الاستبدادية، وفي مواجهة هذا القاتل يجب أن تبدأ ثقافة جديدة يصنعها من يعرف أن يستمع إلى الكلام الذي يرشح من صمت الضحايا.
لن ينحني الناس حتى وهم يُقتلون وتحرق جثثهم في محارق السجون.
وسط هذا الخراب الوحشي الذي أتى به الاستبداد نبحث كيف نبدأ. نسند الأنقاض بالأنقاض كما كتب خليل حاوي مرة، نحمل ألف وردة لنقول لداريا ودرعا والسويداء أن الموتى يعيشون في ضمير عربي آن له أن يستيقظ