وباء كورونا يُعَرّي الأُسرة الغربية!
وسائل الإعلام الغربية بثت العديد من التحقيقات المتلفزة والصحافية حول ارتفاع نسبة الوفيات بعدوى الكورونا في «بيوت المسنين» لقلة الاهتمام بالتزام سبل الوقاية.
«بتلوموني ليه»؟ تقول الممرضة..
في البداية، انصب اللوم على العاملين في «دور رعاية المسنين»، ثم تبين أن عددهم لا يفوق عدد أصابع اليد، وعليهم العناية بأكثر من عشرات المسنين وبعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة جداً ومن المتعذر عليهم المشي حتى إلى الحمام لقضاء حاجاتهم، وبالتالي فالقدرة البشرية للممرضين لا تؤهلهم لمزيد من العناية للمسنين، لقلتهم عددياً. والمسؤولون عن ذلك التقصير هم أولاً الذين يحاولون (التوفير) في تسديد نفقات الأمهات والآباء في «بيوت المسنين». وهكذا، فمدير الدار لا يستطيع تحسين الخدمات.
وجاء وباء الكورونا ليعري ببساطة أن المسن الأوروبي غير الثري يعتبره المجتمع الغربي (بقايا) بشرية تم استهلاكها، وريثما تمضي إلى موتها يتم حفظ المظاهر في بيوت المسنين التي قلما يزورها الأبناء.
عادات عائلية عربية أحبها
حين وصلت إلى باريس ومرت الأيام سألتني إحدى الجارات، بعدما شاهدتني قبل ذلك بيوم برفقة ابني حين كان في العشرين من عمره: «إنه ليس متزوجاً، وبالتالي من الطبيعي أن يقيم في بيت الأسرة».. في دمشق لم يخطر ببال أحد أن على والدي نقل جدتي إلى «بيت المسنين»، بل إن ذلك لم يكن أصلاً موجوداً في دمشق ولم ينهر والدي جدتي يوماً أو يقول لها «أُفّ»، وكان يخفض لها جناح الذل من الرحمة ويردد في نفسه: رب أرحمهما، هي وأبي، كما ربياني صغيراً.
والمقصود مما تقدم رسم صورة للأسرة العربية التي قلما يخطر ببالها التخلص من الآباء والأجداد في «بيوت المسنين» غير الموجودة أصلاً في كثير من بلادنا العربية، إلا ما ندر. وقد زرت في بيروت مرة «دار الكرامة» للمسنين، وهالني أن أرى هناك والدة شخصية سياسية لبنانية معروفة وثرية. وحين التقيته فيما بعد في مناسبة اجتماعية، عاملته باحتقار أدهش زوجي وقلت له إنه أودع أمه «دار المسنين»، ففي بلادنا العربية لم نألف بعد التخلص من الآباء والجدات.
جارتي الفرنسية في المستشفى وحيدة!
ثمة حادثة لم أستطع نسيانها، فقبل أعوام التقيت في المصعد إحدى جاراتي، وكما يحدث في الغرب.. أتبادل معها التحية ريثما يهبط بنا المصعد وهذا كل شيء. (بونجور/أورفوار)! ذلك اليوم كانت تحمل حقيبة صغيرة، سألتها ببساطة: هل أنت ذاهبة في إجازة؟ أجابت: لا، بل إلى المستشفى لجراحة.
دهشت وسألتها: بمفردك، أليس لك أولاد؟
قالت: ابنتي في العمل كما ابني. المرأة الشامية العتيقة التي تقطنني قالت لها: سأرافقك. لن أدعك تذهبين بمفردك.
دهشت، فالشعار في الغرب حتى عائلياً «كل واحد لنفسه»، وذلك لا نجده عندنا في الشرق.
اتصلت بها هاتفياً في اليوم التالي مساء إلى المستشفى، وكانت سعيدة لأن (الخزعة) أثبتت أنها ليست مريضة بالسرطان وستعود إلى البيت في اليوم التالي، فهي قادرة على المشي. في اليوم التالي، اتصلت بي قائلة إنهم لا يسمحون لها بمغادرة المستشفى دون أن يأتي من يصطحبها ويوقع على الأوراق حول ذلك؟
سألتها: أين ابنك أو ابنتك؟
قالت بحسرة: مشغولان بالعمل. وأضافت بما يشبه التوسل: هل بوسعك الحضور؟
وكأي شامية عتيقة، ذهبت لأصطحبها إلى البيت ووقعت الأوراق اللازمة في المستشفى وحزنت، فنحن نحسد الحضارة الغربية ولكن ثمة الكثير الذي تحسدنا هي عليه. وهو التماسك العائلي والارتباط العميق بالأسرة وحتى بالجيران، (والجار قبل الدار) كما يقول المثل الشامي.
الأم شامية والابن غربي العقلية العائلية
لأنني أقيم في ناطحة سحاب باريسية فلي جارات كثيرات.. منهن شامية كانت تقيم في حي «القصاع» ثم في «باب توما»، تعرفتْ على ديبلوماسي فرنسي وتزوجها وانتقلت للحياة معه في باريس، ورحل زوجها، ودرس ابنها في سويسرا واستقر هناك وحمل الجنسية السويسرية، أما هي فظلت في البيت الباريسي. كانت جارتي الأحب رغم فارق السن بيننا، فقد كان ابنها يكبرني سناً. مع الزمن غلبها ضعف الشيخوخة، ولكن ابنها الذي تربى في ظل العادات الغربية لم ينقلها للإقامة معه في بيته على الرغم من أنه غير متزوج، بل أودعها في أحد بيوت المسنين (الفخمة) في سويسرا بالقرب من مدينة جنيف حيث يعمل ويقيم.
كنت اتصل هاتفياً بها كل أسبوع، كانت غاية في التعاسة في (بيت المسنين) كما شعرت من نبرة كلامها، وقلما كان ابنها يزورها. ومرة واحدة قالت لي إنها نادمة لزواجها من غربي، ولم تتخيل أنها ستقيم ذات يوم في أحد (بيوت المسنين) حتى في سويسرا.
الفرنسي مغرّب والعربي له من يرافقه
في باريس، بالضبط في ضاحية نوبي الباريسية الراقية مستشفى (….) لعلاج المرضى بالسرطان بالأشعة.
وكنت أرافق إلى هناك عزيزاً عربياً، ولاحظت أن الذين من أصل عربي يرافقهم شخص ما من أسرتهم أو من الأصدقاء أو الجيران، أما الباريسي فيأتي بمفرده لتلقي العلاج الثقيل.
في قاعة الانتظار، حيث تتم المناداة على المريض، لاحظت أن المرضى القادمين بمفردهم كلهم من الغربيين، وفقط العرب أو الذين من أصل عربي ثمة من يرافقهم لدعمهم معنوياً. من زمان، كتبت ساخرة من (الزفة) التي ترافق في بيروت كل مريض/مريضة تدخل المستشفى لإجراء عملية جراحية.
اليوم، بعد انتشار وباء كورونا أتلو «فعل الندامة»، وأعتقد أن التضامن العائلي أمر عربي جميل علينا أن نفخر به لأنه علامة حضارية إنسانية.
في بلادنا العربية المسن قيمة إنسانية، يحترمها أولاده وجيرانه ومعارفه.
في الغرب، يأتي السيد كورونا ويعري اللامبالاة في الأسرة الغربية بالمسن إذا لم يكن ثرياً ولم يكن ثمة من طامع بالميراث.
النجوم الأثرياء والأمراء يتم لهم الشفاء!
قرأت أن رئيس وزراء بريطانيا، كما أمير موناكو «البير»، أصيبا بمرض فيروس الكورونا، وكما أمير بريطانيا ولي العهد شارلز، وشفوا بفضل العناية الطبية الفائقة التي يحاطون بها ولا تتوافر للناس جميعاً. فيروس كورونا لا يميز بين الفقراء والأغنياء، ولكن الأثرياء يجدون من يعتني بهم للشفاء، لا كما يحدث في «دور المسنين».
وتظل الأسرة العربية الوعاء الأنبل والأفضل للمسنين في مرضهم واحتضارهم، وهم أمراء وأثرياء بمحبة الأبناء حتى ولو كانوا فقراء.
فالأسرة العربية محبة والمحبة مناعة وحماية من الحزن واليأس، وهذا يقوي المناعة ضد المرض.