من يصنع الإرهاب؟
حين تُجلد لا تنشغل بالتفكير بألم الجلد، حاول أن تغوص في أجمل ذكرياتك وتعيشها، إياك أن تعدّ مع الجلّاد سياطه. إذا اضطررت للاعتراف فاعترف على الموتى والقتلى والذين هم خارج البلاد. إذا كان موعد التحقيق معك معروفاً أو دورياً فامتنع عن الطعام قبله بيوم أو ساعات طويلة، فذلك أسهل أن يغمى عليك بعد بضع جلدات، الإغماء فرصة للهروب من العذاب.
في كل مراحل التعذيب لا تكتم صرخاتك، لأنها تؤدي إلى انفجار الرئتين، اصرخ بملء فيك، اسحب ما استطعت من الهواء إلى رئتيك. لا تخجل من نفسك حين تتوسل أو تسترحم، أنت في النهاية إنسان ومن لحم وعظم ومن مشاعر وأحاسيس. إن عدت من التحقيق وفي جسمك بعض الجروح، فلا تترك الجروح من دون أن تمسحها بأي سائل كان، بماء نظيف أو غير نظيف أو حتى بالبول إذا اقتضت الضرورة.
لم تكن السطور السابقة سوى مقتطفات من أحد إبداعات القهر في سجن تدمر، بذلها سجين طبيب لإخوانه المعتقلين، ضمن ذكرياته الأليمة التي عاشها في هذا الجزء الأرضي من جهنم، والتي صاغها الكاتب أيمن العتوم في روايته «يسمعون حسيسها». لك أن تتخيل مقدار وحجم التعذيب الذي مورس على معتقلي سجن تدمر السوري، إبان حكم حافظ الأسد، ذلك التعذيب الذي أفقد المعتقلين الأمل في رؤية أديم السماء، وانحصر تفكيرهم في سبل تخفيف المعاناة، بما يغنينا عن سرد تفاصيل وقائع تعذيبهم.
وقريبا من ذلك، قرأت خبراً مبكياً عن أحد المعتقلين في محاكمة جائرة في دولة عربية، خبراً عن ابتهاج زوجته وفرحتها العارمة إلى حد البكاء، ليس بخروج زوجها من محبسه، ولكن لتخفيف حكم الإعدام إلى السجن 15 عاماً.يا الله، 15 عاما سيقضيها الرجل بعيداً عن أسرته وحريته تقابل بهذه الفرحة، فانظر إلى أي مدى اختُزلت الآمال بين أيدي الطغاة.
أمثال هؤلاء المعتقلين عندما يخرجون إلى الحياة، هل سنندهش إذا قاموا بتكفير الحاكم الذي أمر بتعذيبهم، وزبانيته الذي نفذوا، والجماهير التي صمتت عن تعذيبهم؟ هل سنندهش إذا حملوا السلاح ضد النظام ومؤسساته؟
كثيرا ما يجرنا الحديث عن الإرهاب إلى الفهم الخاطئ لنصوص الدين، باعتباره سببا للتطرف والإرهاب، وهذا حق لا مرية فيه، فمشكلة الإرهابي المتطرف، أنه خضع لتفسيرات خاطئة للنصوص التي تتحدث عن الجهاد وإنكار المنكر، وأحكام التكفير والحدود، ونحو ذلك، من دون أن يرجع إلى الثقات من أهل العلم قديما وحديثا، غير أنه ليس السبب الأوحد لوجود الإرهاب، فمن أبرز أسبابه التي يحجم البعض عن الخوض فيها العنف السياسي والقمع والتنكيل، الذي تمارسه الأنظمة المستبدة تجاه المجتمع، فمن ثم تصنع الإرهاب.
الأنظمة القمعية وأهل التطرف والغلو وجهان لعملة الإرهاب، كلاهما يمثله، وكلاهما يمارس العنف السياسي
جماعة التكفير والهجرة كيف نشأت؟ نشأت في سجون عبد الناصر التي شهدت أبشع جرائم التعذيب تجاه معتقلي الرأي، فلم تتحمل مجموعة من شباب الإخوان هول التعذيب، فأعملوا عاطفتهم في إصدار الأحكام، فكفروا النظام من رأسه وحتى أصغر جندي بسيط لا يقرأ ولا يكتب، بل كفّروا المجتمع بأسره، على اعتبار أنه راضٍ بالكفر، وحملوا السلاح وأزهقوا الأرواح وسفكوا الدماء المعصومة، فمن صنع الإرهاب؟ الأنظمة المستبدة هي التي خلقت النظرة السوداوية القاتمة للحياة والمجتمعات لدى الشباب المتدين، الذي كان يسير على نهج معتدل إلى أن عانى التضييق والقهر والقمع فأصابه داء الانحراف الفكري. الأنظمة هي التي صنعت الإرهاب حين غررت بالشباب المتدين، عندما أعطتها أمريكا الضوء الأخضر لفتح الأبواب أمام هؤلاء الشباب للجهاد في أفغانستان، الذين هرعوا بدافع الحمية الدينية لنصرة الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي، فكان ذهابهم وإيابهم فترة الحرب مسموحا به، من دون التعرض لهم بالأذى، فلما انتهت الحرب التي كانت سببا في إرضاء الطموح الأمريكي بتفكك الاتحاد السوفييتي، غدرت تلك الحكومات بالشباب العائدين من أفغانستان، كانت تنتظرهم المحاكمات الجائرة والملاحقات الأمنية، وألجأتهم إلى تبني طريق العنف المسلح ضد الدول وحكوماتها. الأنظمة الاستبدادية صنعت الإرهاب والتطرف عندما حجّمت وقلّصت دور العلماء في دعوة المجتمع وتوعيته، فضيقت عليهم، بينما أعطت مساحات واسعة للدجالين والعلمانيين وأدعياء التنوير، وحصرت مرجعية الناس في العلماء المُسيسين، الذين جعلوا من أنفسهم أبواقا للنظام، يشرعنون ظلمهم بالفتاوى المضللة، ويبررون سياسات النظام تحت مظلة أولي الأمر، في الوقت الذي لم يستطع كثير من الشباب التمييز بين الاتجاهات الدينية المختلفة على الساحة، ووقعوا أسارى لبعض الجماعات المتطرفة التي حادت عن الوسطية.
نعم هذه الأنظمة صنعت الإرهاب عندما أغرقت الناس في الفقر والفاقة، ومارست أبشع صور الظلم الاجتماعي عليهم، فوجد الشباب أنفسهم أمام آفاق مسدودة، وأحلام موؤدة، فأضحوْا عرضة لاجتذاب الفكر الضال، الذي يهيئ لهم ميدانا يفرغون فيه سخطهم وغضبهم على الأنظمة، التي أفقرتهم وسلبت أرزاقهم وحاربتهم في أقواتهم. هذه الأنظمة القمعية وأهل التطرف والغلو وجهان لعملة الإرهاب، كلاهما يمثله، وكلاهما يمارس العنف السياسي الذي يتفق مع مصطلح الإرهاب من وجود عدة، سواء كان من الأفراد والجماعات تجاه الدولة، أو كان من الدولة تجاه الأفراد والجماعات، فعمليات الاغتيال التي تمارسها الجماعات المتشددة إرهاب، والتصفية الجسدية والاعتقال الذي تمارسه الدولة ضد الأفراد والجماعات إرهاب كذلك. من أبشع صور الإرهاب التي تمارسه الحكومات القمعية ويفتح الباب أمام صناعة الإرهاب، هو جعْل هذا المصطلح فضفاضا مطاطيا، ليشمل كل معارض لسياسات النظام، ودمج الجماعات ذات المنهج السلمي مع جماعات العنف المسلح في خطاب واحد، وكأن الأنظمة تدفعها دفعا باتجاه تبني العمليات الإرهابية وحمل السلاح. قطعًا أنا لا أبرر للإرهاب ولا للإرهابيين، فهم بلا شك أصحاب ضلال فكري وسلوكي، ولكن رأيت أن هناك إعراضا لجمع من أصحاب الأقلام عن التعرض للأنظمة المستبدة باعتبار أنها تصنع الإرهاب ومسؤولة عن وجوده، بل تستخدمه أحيانا لمصالحها السياسية بصورة مباشرة وغير مباشرة. ولو أرادت هذه الأنظمة وأْد الإرهاب لفعلت، عن طريق الحوار الوطني، وتهيئة مناخ ديمقراطي يستوعب حرية الرأي، ومد المساحات الخضراء لعمل المصلحين المعتدلين لتحصين الشباب، وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإنما ينبت الإرهاب من تلك الهوة بين الحكام والشعوب، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.