خمسة مهددات وجودية تشمل جميع السوريين
سورية الوطن والإنسان مهددات العيش الوجودية...
وأكتب هذا المقال عن كل سورية وكل السوريين، وفي مثل هذا السياق الإنساني، يسقط التصنيف " معارضة - موالاة " وإن كان المجرم صانع المحرقة، والمتلذذ بالمأساة لا يغيب أبدا عن أذهان العقلاء من السوريين..
وهذه المهددات حين توضع في سياقاتها الإنسانية والوطنية وفي آفاقها المستقبلية، قمينة أن تجعل من جميع العقلاء يعيدون في مبتدا أمرهم ومنتهاه التفكير.
يستنبط العقلاء موقفهم السياسي العملي من معطيات اللحظة، والساعة واليوم والشهر والسنة ؛ مستشرفين كذلك آفاق الساعة والسنة والعقد والقرن أيضا ، وأسأل كيف ستكون سورية الجغرافيا والديموغرافيا في عام 2121 ؟؟
والتدبر والتدبير ، حسب اصطلاح القرآن ، هو النظر في أدبار الأمور، عواقبها ومآلاتها وما تقود إليه. ألا ليت قومي يعلمون
إن ما آلت إليه السياقات السورية المتضافرة على هدف دولي عالمي واحد، تدمير سورية، وإبادة السوريين، وخذلان ثورتهم، كل ذلك يتطلب موقفا أكثر حكمة ورصانة وواقعية، وإيمانا بالغد الزاهر الجميل يشمل بالعدل والحرية جميع السوريين.
وسينطلق ذلك ولاشك من رؤية عملية لما آل إليه وضع سورية والسوريين.
ولاشك أن المتأمل الواعي للمشهد السوري وطنا ومجتمعا ، يدرك أن القرح المشترك هو الذي بات يخيم على سورية وعلى السوريين أجمعين. وإذا كنا لا ننتظر من المجرمين والسفاكين والقتلة أن يهتموا بمعاناة الناس وآلامهم، فلا يرضى عاقل لنفسه أن يشاركهم الجريمة والإثم أو أن ينافسهم فيه .
وبالنظرة الإنسانية الوطنية المستعلية لواقع سورية وواقع السوريين جميعا نستطيع بكل سهولة أن نكتشف حجم المهددات الوجودية للجرح الذي بات يلفهم ونكاد نقول أجمعين ..
والمهدد الأول لوجود السوريين ..
هو مهدد" الخوف" وانعدام الأمن، وهو الذي أخرج ملايين السوريين من بلادهم ، فحولهم إلى لاجئين ونازحين. ..وكان الخوف أولا من الأجهزة الأمنية، ثم من قصف الدبابات والمدفعية، ثم من قصف الطائرات والسارين والبراميل ، ثم من فتك الأسلحة الروسية الألف، التي تم تجريبها في أديم الشعب السوري ، ثم اتسعت رقعة تهديد الخوف لتشمل الخوف من الميليشيات الطائفية والعنصرية ، ثم اتسعت لتشمل في بعض المناطق الخوف من حماقات بعض الحمقى، وعنصرية بعض العنصريين.
لا نشك أن حجم الخوف واتساع دوائر مسببيه تختلف، ولكن الخوف الوجودي على " النفس والعرض والمال " خوف حقيقي يتلبس كل السوريين، وكل الذين يعيشون على الأرض السورية. بل ويمتد إلى غيرهم من السوريين الذين يعيشون بعيدا عن الأرض السورية .
ارجع إلى صفحات السوشيال ميديا المختلفة، تجد سوريين يصرون على الكتابة والنشاط تحت أسماء مستعارة، أجدهم من كل الأطياف، وحين تسألهم بحميمية يكون جوابهم " خوفا من قابل الأيام " فهؤلاء أيضا لهم وجهة نظر من تعليم الأيام . يقول أحدهم ليس على نفسي أخاف !!!
إن التفكير السائد دوليا اليوم باستدامة عهد الأسد، وإن ببعض الرتوش" يعني أن سورية ستظل على مدى المستقبل المنظور " جغرافيا " طاردة للحياة والإنسان، حتى هؤلاء السوريين الذين يتورطون اليوم ببعض الآراء والمواقف، مستفيدين من مناخ الأزمة ، سيعلمون أنهم يوم ستتفرغ لهم أدوات القمع ستحاسبهم على شرائهم كتب " تفسير الأحلام " لابن سيرين أو لفرويد على السواء .
إن موقف واجهات المعارضة السورية المنقاد عمليا للموقف الدولي وبلا شروط ، يبعث في العقول والقلوب المزيد من الوهن والخوف. فهؤلاء المنقادون لا يرجى منهم في سياق الأحداث خير .
وفي الحديث عن الخوف المهدد في سورية، والذي يقطع الطريق على كل حالم وآمل ، تكرس سياسات القمع الأسدية أن لا مجال للتسامح مع من حسب منطقها " زلّ " أو " ضل " أو " حدثته نفسه الأمارة بالسوء " فكل العائدين وإن صالحوا واصطلحوا يجدون أنفسهم في لحظة أمام مقصلة الحساب ...
السؤال العدمي الذي لم يعد يجدي طرحه : هل من الاستراتيجيات الدولية المقررة أن تتحول " سورية " كل سورية إلى ما يشبه الثقب الأسود الكوني، يبتلع كل عناصر الحياة والأمن والنماء ...؟؟؟
والمهدد الوجودي الثاني لسورية الجغرافيا والديموغرافيا :
الذي يواجه غريزة الحياة في سورية هو تحدي الجوع الكافر ..
الجوع الأسود وليس سوء التغذية !!
والجوع كافر كما تعودنا أن نقول، في تراثنا الشعبي. و حفظنا أن :ندعو اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع. وأشد ما يكون الجوع عندما يتحول إلى دمعة في عيني طفل، أو عويل في صوت رضيع.
والجاهل وحده هو من يحسب أن الجوع قاصر على اللاجئ والنازح، أو على مخيم في المحرر من الشمال والجنوب.
في كل المدن والبلدات السورية هذه الأيام أقوام جائعون ، بمعنى الجوع الكافر الذي ما عرفته بلاد الشام في تاريخها الحضاري العريق . في كل المدن والبلدات ، حتى في البيوت " أبوابها عالية وحلقاتها صفر " أطفال جائعون ونساء جائعات و " يحسبهم الجاهل أغنياء "
في البيوت المغلقة على ما فيها كل الأسر التي يعيلها رجل عام لم يرث ولا يسرق ، أسر محتاجة أو جائعة . من أساتذة الجامعات والمدرسين والأطباء والمهندسين العاملين في سلك الدولة وكذا المدراء وجميع طبقات الموظفين.
وإذا أحبط الرجل العام أحبط السواد العام من المهنيين والباعة وأصحاب الحوانيت ...
تحدي الجوع في سورية الحبيبة ، هذه الأيام عام وشامل ومحبط ومخيف، وله آثاره الاجتماعية المدمرة للقيم والأخلاق، والجوع لا يميز بين موال ولا معارض، ويقرص البطون بلا خلفية إيديولوجية ولا سياسية، وهذا خطر ماحق يحيط بسورية الحبيبة، وسط انتشار قطعان من المبشرين بالرفض وغيره ، وبزواج المتعة وسواها ..
ولا نجد إلا أن نقول ألا ليت قومنا يعلمون ...
والمهدد العام الثالث في سورية الحبيبة...
تهديد العطالة والبطالة ...
ولو أردت أن أشرح الصور لما اتسع كتاب ..
تهديد العطالة وقصدت به مصائب الأسر من ذوي القتلى والشهداء، مات المعيل وترك وراءه . أو مصائب حطام المعارك من أولي الضرر ، مقعد ، وفاقد للساقين أو اليدين ..أو العينين ..
أو المقاتل أيا كان، يجد نفسه بعد عقد أو نصف عقد وكأنه عبء قد ضاق بحمله الناس ..كثير من مجندي الفصائل اليوم ومثلهم من مجندي الميليشيات. وأنظر إلى المشكلة من جانبها الاجتماعي والاقتصادي ..شاب منذ عشرة أعوام ولا يحسن غير استعمال السلاح !!
ثم البطالة الظاهرة والمقنعة ، من صاحب الأرض المزروعة احترق زرعه ، إلى العامل في المصنع ، أغلق مصنعه، وصاحب المهنة عاف الناس صنعته
أقرأ وأسمع كثيرا من الكلام يردده أهل الفنتازيا ولكن بعض هؤلاء لا يدركون معنى أن يستيقظ والد في الصباح لا يملك ثمن قارورة حليب أو رغيف خبز يمضغه وليد.. في مدينتنا كنا نقول " حديث القرايا لا يحكى في السرايا"
صور العطالة والبطالة بين كل السوريين أكثر من أن يحيط بها مقال ولكنها عبء ثقيل على العقول والقلوب وعلى نفوس الرجال ...
والتهديد الرابع المشترك في المشهد السوري تهديد المرض ..
وكان قائما قبل كورونا، وتعزز ثقله بعدها ، وتحدي الصحة، وتهديد المرض بكل أبعاده يمد من قطر دائرة الثقب ، الأسود الذي يهدد حياة الناس أجمعين. المرض يطحن السوريين في المحرر وفي الممرر !! ونؤمن أن الموت والحياة من قدر الله، ولكن رحى المرض في سورية ما تزال تطحن المزيد من حياة الناس. ومعاناة المرضى من السوريين تزداد وتزداد ..وليس ذنب المرضى أن بشار الأسد لا يهتم ، بل إذا كان بشار لا يهتم ، فنحن أنا وأنتَ وأنتِ وأنتم وأنتن يجب أن نهتم والأولى بنا أن نهتم ..
ومن تهديد البطالة والمرض إلى تهديد الأمية والجهل ..
والطفل الذي ولد في الخيمة العام الأول للثورة أصبح اليوم يافعا في العاشرة من عمره ...
هذا الطفل لم يعرف بعد معنى البيت والغرفة والسقف والنافذة والمطبخ والسرير ...
هذا الطفل يجب أن يكون في الصف الرابع أو الخامس كما تحسبون ..!!
ومن دائرة الأمية إلى دائرة الشهادات الجامعية المفرغة من محتواها، يواجه مجتمعنا السوري في كل تلافيفه أزمة خانقة محيطة ...الشهادة الحزبية هي التي ستؤمن لخريج الجامعة ، وظيفة بعشرة دولارات شهريا عليها يتنافس المتنافسون!!
الجغرافيا السورية اليوم هي الثقب الأسود على الخارطة العالمية، الثقب الأسود الذي يمتص ويتلف كل عوامل الحياة الإنسانية بالمعنيين البيولوجي والحضاري ..
وهذه التهديدات هي تهديدات واقعية جديرة من الأم الصادقة بالاعتبار ... وهو واقع جدير بأن يجعل لهذه الثورة المباركة منطلقات، ومضامين وآفاقا غير الذي يردد أصحاب الوجوه . إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها، فكيف بحال صاحب الوجوه !!!
هذا مجرد عرض للمشكلة وقد أزعم أنني لا أملك الحل ، ولكن البحث عن الحل بالصدق العملي والواقعي واجب الجميع. واجب الهيئات والمنظمات والتجمعات والشخصيات. ولا يحق لأحد أن يدير ظهره لبكاء الرضيع ولا لاستغاثة زبطرية بُح صوتها تنادي : وامعتصماه.. أسأل ضمائركم متى بالجد تحدثوا عن قضايا المعتقلات والمعتقلين؟؟؟
وفي البحث عن الحل يجب أن تتطلع أبصارنا إلى الأفق القريب والأفق البعيد ، بل يجب أن نستشرف وراء الآفاق المحدودة آفاقا لا تحد ..
وآفاق لا تحد ...كان هذا عنوان كتابه قرأناه في ستينات القرن الماضي للكاتب فؤاد صروف ...
كان أستاذ اللغة العربية، قد شرح لنا أن الأفق هو الخط الذي يظهر لنا فيه الأرض ملتصقة بالسماء على مدى بصرنا المفتوح. بعض الناس يقول خط التصاق السماء بالأرض، وبعضهم يقول خط التقاء الأرض بالسماء، وبينهما بون بعيد للذين يعلمون ..
معلم الرسم علمنا أن أول خط يجب أن نرسمه في اللوحة الطبيعية هو خط الأفق، وحسب رغبتنا نحدد مساحة السماء ومساحة الأرض ..وشرح هذا بكلام كثير ..
من كتاب يعقوب صروف تعلمت وأنا في الأول الإعدادي المعنى المفتوح للأفق المفتوح على الأمل بلا حدود ..
أدعوكم للاستشعار والتفكير والاستشراف ..رجل من أقصى المدينة يسعى فيقول : ألا ليت قومي يعلمون ...