شيرين أبو عاقلة… الدماء التي أزهرت
لله درّ صاحب الشوارد في حديثه عن النفس البشرية: «إن فيها لجمرة يغطيها الرماد، وشرارة يقدحها الزناد، فإن وجدت نافخا في جمرها وقادحا لشرارها: استيقظت وتحفزت، وعملت وصعدت».
وكم من جمرات علاها الرماد، وظن الظانُّ بها اندثارا وانطفاءً، فإذا هي بمن ينعش اتقادها بأنفاسه، ليثبت للمتوهمين أنها ما زالت حية تتنفس.
لم يحتكر الأحياء فضل إيقاظ الفكرة، فما أكثرهم في التاريخ، أولئك الذين كان موتهم مادة حياة للأفكار، ودليلاً على أنها مزهرة لم ينل منها الذبول.
شيرين أبو عاقلة ابنة القدس، الصوت الحر، وشاشة عرض الحقائق عن قضية فلسطين وسط الدخان والنار وأجراس الخطر وطلقات الرصاص، أيقظت بعد رحيلها عن عالمنا برصاص الغدر في الناس جمرة، وجددت دماءً ظنها الكثيرون راكدة في العروق.
ففي ظل طوفان التطبيع الذي وصل إلى أبشع مستوياته، وبينما يجري التسابق المحموم بين المطبعين لنيل الرضا الأمريكي الصهيوني الضامن لبقاء العروش، وفق أوهامهم، وبينما يركن الاحتلال إلى مظاهر التطبيع التي تشير إلى أن كل شيء على ما يرام، كشفت شيرين أبو عاقلة مع أول دفقة من دمائها، أن القضية الفلسطينية ما زالت حية نابضة في وجدان الشعوب، ولعمري هذا أعظم ما أنجزته فقيدتنا المناضلة، نعم… عاشت عقوداً بين الأخطار، وتربَّى جيل حي على نبرة صوتها وهي تذيل تقريرها من قلب الأحداث بعبارة حفظناها عن ظهر قلب «شيرين أبو عاقلة، الجزيرة» تؤدي عملها بمهارة وإتقان وشجاعة، ليغدو صوتها مدفعاً يصم آذان الاحتلال، لكنها لم تدرك أن أعظم إنجازاتها التي خدمت بها القضية الفلسطينية، هو تلك الدماء التي سالت منها على الأرض الطيبة، وهي تغطي الجرائم الصهيونية، والتي كانت إشارة قوية وبرهانا جليّاً على أن قضية فلسطين خالدة في وجدان الشعوب، مهما بذلت الأنظمة جهودها لتسطيح القضية الفلسطينية وتهميشها لدى الجماهير، عن طريق الآلة الإعلامية والدعايات الكاذبة والتزييف المتعمد لحقائق التاريخ والواقع.
وبيان ذلك، أن هناك العديد من الإعلاميين والصحافيين ومراسلي الحروب قضوا نحبهم أثناء عملهم في غير بقعة ليست من بينها فلسطين، وبكاهم الناس، ونددوا بالجريمة، لكنهم رغم ذلك لما ينالوا هذا الحظ الوافر من التفاعل، الذي رافق اغتيال شيرين أثناء تغطيتها لجرائم الاحتلال في جنين، ذلك لأن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال، هي القضية المركزية لدى الشعوب الإسلامية والعربية، كل ما ـ ومن – يتعلق بها له وهج خاص وألْقٌ متفرّد، فكان اغتيال شيرين هو حدث الساعة في الأمة، اقترن بتفاعل غير عادي من الجماهير في المشارق والمغارب، وأضحى المادة الأساسية المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام في شتى الأقطار، ذكّرنا جميعا باغتيال الطفل الفلسطيني محمد الدرة الذي ألهب مرآه القلوب وأدماها. رأيت أن من مظاهر تلك المركزية على إثر اغتيال أبو عاقلة، أن الحدث قد أحرج وسائل إعلام المطبعين، وأجبرها على التنديد والشجب، وتناول الحدث بما يتناغم مع المزاج الجماهيري العام، وهي التي دأبت على الترويج لبرامج التطبيع. سالت دماء شيرين أبو عاقلة، لتكشف عن إفلاس الاحتلال، وأنه استنفد جميع أوراقه، ولم يعد لديه المزيد ليواجه به راية التحرير، ومن ثَمّ أقدم على هذه الحماقة وقام بخرق القوانين الدولية بهذا الشكل الفج، واستفز الإنسانية بأسرها وأحرج أنظمة التطبيع وضيق عليها الخناق، فقط ليمنع وصول الحقائق إلى العالم، لأنه بات عاجزا، لم يعد في جعبته شيء.
ولا يمكن تفسير ما حدث على أنه جريمة فردية وتصرف غير مسؤول لأحد العناصر الأمنية الصهيونية، لأن مثل هذه الانتهاكات لها خطورتها وتبعاتها، ولا يمكن أن تصدر إلا عن أوامر من القيادة الإسرائيلية، أضف إلى ذلك أن شيرين لم تكن الوحيدة التي تم استهدافها بالرصاص، حيث تم استهداف زملائها من الطاقم الصحافي، وأصيب الإعلامي على السمودي برصاصة في الظهر، ووضعه الصحي إلى حين كتابة هذه السطور غير مستقر، كما لم تستطع زميلتها شذا حنايشة إسعافها بسبب طلقات الرصاص التي انهمرت وحالت بينها وبين وصولها إليها. وأظهر الاحتلال مزيدا من إفلاسه وحماقته وهمجيته، خوفاً من تداعيات الاغتيال وتأثيره، إذ أقدمت قواته الغاشمة على مهاجمة المشيعين لدى إخراج نعش الفقيدة من المستشفى في القدس، وقامت بتفريق حشود ترفع الأعلام الفلسطينية، حتى كاد النعش يسقط أرضا، منعا لإقامة جنازة حاشدة للصحافية المغدورة، ما يعبر عن إصابة الاحتلال بحالة من الذعر، عبّر عنها الناشط المقدسي أمير مراغة من أمام المستشفى بقوله، إن القدس أصبحت ثكنة عسكرية، وجنود الاحتلال يقمعون من يهتف باسم شيرين.
تحية للمناضلة شيرين التي أزهرت دماؤها لنا، وتحية لكل حر يبذل من أجل القضية، وأما الاحتلال فإننا على يقين من قرب زواله ليصبح أثراً بعد عين، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.