هل انتهى شهر العسل بين ملالي إيران وبعث الشام

د. فيصل القاسم

صحيح أن الحصول على معلومات دقيقة وموثّقة حول طبيعة العلاقات المتوترة بين إيران والنظام السوري هذه الأيام ليس بالأمر اليسير أبداً، لكن المراقب يمكن أن يستشف بعض المؤشرات على حصول تحوّل من نوع ما في العلاقة بين النظامين الإيراني والسوري في الآونة الأخيرة، فلم يعد الإيرانيون مثلاً يخفون امتعاضهم الشديد من تورط المسؤولين السوريين الكبار في الضربات الإسرائيلية الأخيرة لمواقع وقيادات إيرانية على الأراضي السورية، في الوقت الذي شاعت فيه أخبار وتناقلتها مواقع عدة عن وجود حوالي ثلاثة عشر ألف مخبر وعميل لإسرائيل في قيادات الميليشيات الأسدية أو ما كان يعرف بـ«الجيش السوري سابقاً».

وقد نشرت أكثر من وكالة إيرانية مؤخراً أخباراً تؤكد أن إيران تحقق بالأمر وباتت متيقنة من أنّ جهات سورية هي التي تعطي الإحداثيات للإسرائيليين كي يستهدفوا بعض الشخصيات الإيرانية ومواقعها بدقة في سوريا. ولولا ذلك لما تمكنت إسرائيل من اصطياد القيادي في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي بالقنصلية الإيرانية بدمشق، ولما نجحت في تدمير منازل عدة فوق رؤوس قيادات إيرانية عديدة خاصة في «كفر سوسة» المعقل والمربع الأمني الفولاذي الأشهر للنظام، ومنطقتي (المزة) و(الست زينب).

 

وبعيداً عن الأنظار يُبدي الإيرانيون استياءً شديداً من الدور التحريضي الخفيّ الذي تلعبه زوجة الرئيس السوري في هذا الصدد دون أن ندخل في تفاصيل أعمق. المهم، هناك، اليوم، شيء غير مسبوق يحدث للوجود الإيراني في سوريا الذي جاء أصلاً بمباركة إسرائيلية أمريكية، فالإيرانيون يطالبون بديونهم من الحكومة السورية المفلسة دون أن يحصلوا على شيء، بينما معظم الاتفاقات التي وقعها الرئيس السوري مع نظيره الإيراني في زيارته الأخيرة لدمشق معلـّقة، ولم تجد طريقها للتنفيذ.

لكن هذا لا يعني أبداً أن الإيرانيين فقدوا مخالبهم في سوريا، لا أبداً، فهم يحاولون توطيد نفوذهم، وخاصة على صعيد التغيير الديمغرافي وشراء الأراضي وتطويق العاصمة بحزام شيعي ناهيكم الاستفزازات الشيعية لسنة الشام والتطاول على قبر معاوية والتطبير واللطم، علانية، في شوارع دمشق في تحد لمشاعر السواد الأعظم من السكان، بالتوازي مع اختراق تام لكل مؤسسات الدولة، وإدارة الميليشيات المحلية في العديد من المحافظات السورية. نقول ذلك كي لا يظن البعض أن النفوذ الإيراني في سوريا قد انتهى. لا أبداً، فإيران تستثمر في سوريا عسكرياً وأمنياً ومالياً واقتصادياً ودينياً منذ عقود. وأتذكر في عام ألفين وثمانية عندما اختفت بعض مواد البناء من البلاد، كالأسمنت، فسألت وقتها أحد المسؤولين الكبار: «لماذا لا يوجد إسمنت ولا حديد في مؤسسات الدولة» فهمس في أذني قائلاً: «الإيرانيون احتكروها لبناء الحسينيات والمراكز الإيرانية في سوريا». وقد زاد التغلغل الإيراني بعد الثورة السورية بحجة أن إيران وميليشياتها هي التي حمت النظام من السقوط. لكن مع ذلك، لا يخفى على أي مراقب اليوم أن العلاقات بين السوريين والإيرانيين ليست سمناً على عسل، بدليل أن بعض المسؤولين والضباط السوريين الكبار باتوا يتساءلون علناً: «ماذا استفدنا من العلاقة مع إيران؟ لماذا لا نوقع اتفاقيات سلام مع إسرائيل؟ أليس ذلك أفضل لنا من هذه الورطة مع الإيرانيين؟»

صحيح أن الحصول على معلومات دقيقة وموثّقة حول طبيعة العلاقات المتوترة بين إيران والنظام السوري هذه الأيام ليس بالأمر اليسير أبداً، لكن المراقب يمكن أن يستشف بعض المؤشرات على حصول تحوّل من نوع ما في العلاقة بين النظامين الإيراني والسوري

ولو استمعتم هذه الأيام إلى الفيديوهات الخطيرة التي ينشرها أحد فتيان «شعبة المخابرات العسكرية» السورية لتأكدتم أن هناك شيئاً ما يعكر وبشدة صفو العلاقات بين دمشق وطهران، فالفتى «الموالي للعظم» المذكور لا يمكن أن يخرج على الهواء في مواقع التواصل وعلى شاشات التلفاز ليصف إيران بأنها ألد أعداء الشعب السوري، فهي عدو مبين للسوريين برأيه، بينما يتكلم عن إسرائيل بكلمات رقيقة وعذبة حدّ الوله والعشق والهيام، كأن يصف الإسرائيليين بالمعتدين وليس بالأعداء، لا بل إنه اتهم إيران بأنها مسؤولة عن كل الخراب والدمار اللذين تعرضت لهما سوريا على مدى ثلاثة عشر عاماً من الثورة. نعم الثورة، فقد اعترف المتحدث، بإيعاز مخابراتي طبعاً، بأن السوريين ثاروا من أجل تحسين وضع بلدهم لكن إيران وميليشياتها هي التي تصدت لهم بالحديد والنار وقتلتهم وشردتهم بالملايين ودمرت مدنهم وقراهم. وهذا كلام كبير لا يمكن لأي سوري أن يتفوه به لو لم يكن لديه ضوء أخضر مخابراتي. لا أحد يقول لي إن المتحدث الذي صعق السوريين بفيديوهاته الأخيرة هو مجرد مهرج صغير ولا يؤخذ بكلامه، فنحن السوريين نعلم أنك في سوريا لا تستطيع أن تنتقد جمهورية حنكوشيا الشمالية (الصديقة) دون عقاب شديد، فما بالك أن تشن هجوماً على أهم حليف للنظام السوري وهي إيران وتصفها بأنها أكثر خطراً على السوريين بعشرات المرات من إسرائيل بهذه السهولة، ثم تحصل بعد ذلك على شكر مالي وسيارة «بيجو إيرانية» هدية من المخابرات العسكرية؟

بالتزامن مع ذلك كله، فقد تم الإعلان خلال الأيام القليلة الماضية عن تشكيل ما أطلق عليها «وحدة المهام الخاصة» في سوريا «لاستهداف إيران و«حزب الله»». صحيح أن الجهة التي أعلنت عن ذلك تدّعي أنها معارضة، لكن البعض لا يبرئ المخابرات السورية من تلك الحركة، خاصة وأنها تتطابق مع هجوم الناطق المخابراتي على الوجود الإيراني في سوريا، كما أنها تتزامن مع الاتهامات الإيرانية للاستخبارات السورية بإعطاء الإحداثيات لإسرائيل لاستهداف مواقع إيرانية داخل البلاد.

ولا ننسى طبعاً أن دمشق (رافعة رايات المقاومة والممانعة) نأت بنفسها تماماً عن الحرب في غزة، ومنعت أي مظاهرات تأييداً للفلسطينيين، وحظرت أية تحركات عسكرية من داخل أراضيها دعماً لحماس المتحالفة مع إيران، فحصلت مقابل ذلك على تعطيل قانون مناهضة التطبيع الأمريكي، فقد رفض الإسرائيليون والأمريكيون تمرير القانون ضد النظام السوري تكريماً له على موقفه الإيجابي من الهجوم الإسرائيلي على غزة.

غير أن هناك رأياً آخر يعتقد أنه من السذاجة الانسياق وراء فيديوهات فيسبوكية وبعض الأبواق واعتبارها دليلاً دامغاً على انهيار العلاقة بين طهران ودمشق، فالتحالف بين إيران والنظام السوري استراتيجي ومدعوم إسرائيلياً وأمريكياً، ولا يمكن أن يهتز ويسوء بسبب فيديو، أو قيل وقال هناك، وأن كل ما يحدث في هذا الصدد قد يكون مجرد لعبة مدروسة، أو مناورة وتكويعة تكتيكية أسدية معروفة، تتضمن رسائل للعرب تزامناً، وكردّ جميل وتحية، مع دعوة الأسد للقمة العربية، كي تبدو دمشق وكأنها تستجيب لبعض الضغوط العربية والدولية التي تطالبها بالابتعاد عن إيران مقابل الحصول على دعم مالي وسياسي عربي ودولي، فهل يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة والسذاجة فعلاً، أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟ هل هي مجرد سحابة صيف وفقاعة ستنفجر وتتلاشى في الهواء، أم هي مؤشرات ومقدمات لنقلة شطرنجية على الرقعة المهلهلة وخطوة سورية جدية وتمهيد لإجراء قرار حاسم سيطال، فعلاً، الوجود الإيراني في سوريا؟