تحرير الأسرى الإسرائيليين…انتصار بطعم الهزيمة

إحسان الفقيه

على طريقة احتفال فريق يهتف جذلا بإحراز هدف وحيد في مرمى خصم كبير، بعدما تلقى حزمة من الأهداف في مرماه، ظهر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو في لقطة لطالما تمناها، حيث ظهر مع الأسرى الأربعة الذين تم تحريرهم في عملية النصيرات وهو يحتفي بإنجازه، محاولا بث رسائل الطمأنينة في الجماهير الإسرائيلية والمعارضة الغاضبة. يبدو أننا اعتدنا مشهد الضربات التي تكيلها المقاومة للعدو الصهيوني، مقابل إخفاقات الطرف الآخر الذي لم يحقق نصرا واحدا سوى ضرب المدنيين وقصف المنازل والمنشآت. ربما كان هذا الاعتياد هو سبب شعور كثير منا بالإحباط والهزيمة والنظر إلى ذلك الحدث على أنه نصر مدوٍ للاحتلال وإخفاق للمقاومة ينذر بأن قوتها تضاءلت وأن الكيان الإسرائيلي استعاد تماسكه.

على افتراض أن العملية تمثل نصرا إسرائيليا، فالحرب سجال، والانتصار في جولة لن يلغي جولات الهزيمة، ثم إنه من المضحك أن يكون هذا نمط المقارنة بين جيش يزعم أنه الأقوى في المنطقة وتدعمه قوى كبرى، وكتائب مسلحة لا تمتلك طائرة ولا دبابة ولا مدرعة ولا بطاريات دفاع جوي، وعدد عناصرها لا يساوي عشر الجيش الإسرائيلي.

لكننا إذا نظرنا إلى العملية بعد استحضار معايير النصر والهزيمة، وتسليط الضوء على السياق الكلي للأحداث، وربطنا العملية بمآلاتها المتوقعة، فحينئذ سنقر ونعترف بأن هذه العملية لم تكن نصرا للكيان الإسرائيلي، بل كانت نصرا للمقاومة وشعب غزة، ويمكننا استيعاب ذلك من خلال ما يلي:

 

تحرير أربعة من الأسرى بعد كل هذا الوقت والجهد الذي بذل، يعد دليلا دامغا على ضعف الكيان الإسرائيلي، وتعبيرا عن فشله، وإبرازا لقوة المقاومة وقدراتها

أولا: العملية تنذر من حيث توقيتها بأن تحرير الرهائن في غزة من المستحيل أن يأتي إلا عن طريق المفاوضات، وهذا ما تحدثت عنه الصحف العبرية ذاتها، لكن دعنا من تصريحاتها، ولنُجر حسبة بسيطة. تحرير أربعة من الأسرى جاء بعد ثمانية أشهر من الحرب استخدم فيها العدو الصهيوني كل إمكاناته الاستخباراتية والعسكرية وبمساندة دول كبرى، فكم يحتاج الكيان الإسرائيلي من وقت لكي يحرره جميع أسراه بهذه الطريقة؟

لو قلنا بأنه قد بقي حوالي 120 أسيرا، فبهذا المعدّل سوف يستغرق تحرير الأسرى كافة أكثر من سبع سنوات، مع الأخذ في الاعتبار أن المقاومة من الطبيعي أن تغير نمط التحفظ على الأسرى وإيوائهم وتكون أكثر حذرا.

فتحرير أربعة من الأسرى بعد كل هذا الوقت والجهد الذي بذل، يعد دليلا دامغا على ضعف الكيان الإسرائيلي، وتعبيرا عن فشله، وإبرازا لقوة المقاومة وقدراتها.

ثانيا: يظهر فشل الاحتلال وضعفه وعجزه كون هذه العملية تمت بمشاركة أمريكية، ولم تكن لتنجح من دون هذا الإسناد، وهذا تأكيد على المؤكد، من أن هذا الكيان هشّ يستمد حياته ومادة بقائه من الولايات المتحدة، وأنه لو تُرك وحده لما قامت له قائمة.

ثالثا: ما يبرهن على أن العملية هزيمة للاحتلال، أنها كانت ذات كلفة عالية في الأرواح لدى الكيان، حيث قتل خلال العملية القائد في وحدة «اليمام» الخاصة أرنون زامورا، إضافة إلى مقتل عدد من الأسرى، وفقا لأبو عبيدة المتحدث باسم القسام، الذي لم نعهد عنه من قبل تصريحا منافيا للحقيقة، فكيف يعد تحرير أربعة من الأسرى نصرا وقد قتل مثل عددهم تقريبا؟ فهذه دلالة واضحة على أن نتنياهو ما يهمه هو الدعاية لنفسه وحكومته لا سلامة الأسرى.

رابعا: أسفرت العملية عن استشهاد 210 أشخاص وإصابة 400 آخرين من أهالي غزة حتى كتابة هذه السطور، فهذه فضيحة إنسانية بكل المقاييس، فنتنياهو لكي يحرر أربعة قتل وأصاب ما يزيد عن ستمئة من شعب غزة، ليزيد من سجلات جرائمه، ويحظى بمزيد من تنديد وسخط شعوب العالم، ويزيد من مسوغات محاكمته. كان العالم سينظر إليه على أنه نصر لو كان هؤلاء الضحايا من مقاتلي المقاومة لا من السكان العُزّل، فكيف يعتبر هذا نصرا؟!

خامسا: تحرير هذا العدد الضئيل من الأسرى أعاد الأعداد إلى نصابها فحسب، ففي نهايات الشهر المنصرم، نفذت كتائب القسام عملية جباليا الشهيرة، التي قامت خلالها باستدراج قوة صهيونية إلى كمين النفق، واشتبكوا مع عناصرها من المسافة صفر، وهاجمت المقاومة قوة الإسناد الإسرائيلية بعبوات ناسفة، ليقع جميع أفراد القوة بين قتيل وجريح وأسير.

فالمقاومة أسرت عددا من الإسرائيليين أضيفوا إلى أسرى السابع من أكتوبر، ثم قام الاحتلال بتحرير أربعة من الأسرى بعدها، لكن مع الفارق أن الأسرى الإسرائيليين في عملية جباليا من الجنود، وهذا يعني أن العدد المقابل لهم من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية سيكون كبيرا خلال الصفقات المقبلة، بما يزيد كثيرا عن العدد حال كونهم من المدنيين، فكيف يعتبر نتنياهو هذا نصرا؟!

سادسا: ظهر الأسرى بحالة صحية جيدة وملابس نظيفة، كما لو أنهم كانوا يجهزون لصفقة تبادل، وهذا يأتي في صالح المقاومة التي قدمت صورة طيبة عن منظومتها القيمية برعاية أسراها، على النقيض تماما مع ما يحدث للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. وهذا يدحض في الوقت نفسه المزاعم الإسرائيلية عن الأحوال المتردية للأسرى لدى حماس.

سابعا: هذه العملية ربما تكون هي الأولى والأخيرة من نوعها، لأنه بطبيعة الحال سوف تشدد المقاومة إجراءات التحفظ على الأسرى، لئلا تتكرر العملية، وستكون أكثر انتباها وتيقظا، كما أنها سوف تولي ملف العمالة الداخلية اهتماما أبلغ، إذ أن هذه العملية يصعب القول إنها جاءت بمعلومات من خلال طائرات الاستطلاع، فغالبا هناك من تم شراؤه.

ثامنا: من المرجح أن تؤدي العملية إلى تشدد حماس في المفاوضات المقبلة، وربما يأتي على رأس ذلك رفضها للوساطة الأمريكية، أو المطالبة بتدخل روسيا أو الصين في الوساطة، بعد التواطؤ الأمريكي في العملية، الذي ينفي عن الولايات المتحدة صفة الوسيط.

تاسعا: العملية لن تهدئ الشارع الإسرائيلي الغاضب، لأنه يدرك جيدا أنه سيكون من المحال تحرير أسراه بتلك الطريقة مرة أخرى، كما أنه يخشى على الأسرى في غزة من أن تطبق عليهم إجراءات تعسفية من قبل المقاومة، أو أن تقوم بتلغيم المباني التي يوجد فيها الأسرى لئلا يخرجوا أحياء أثناء أي عملية إسرائيلية محتملة.

رغم الألم الذي أصابنا جميعا لسقوط هذا العدد الهائل من أهل غزة، إلا أنه لا يمكن أن يكون دافعا لتراجع المقاومة عن موقفها، لأن المعركة معركة الجميع ليست معركة المقاومة وحدها، وهو الثمن الذي تدفعه كل شعوب العالم التواقة للتحرير، والتراجع سوف يؤصل لدى الاحتلال أنه يكسب جولاته بالضغط من خلال المدنيين، فسوف يكون الأمر يسيرا بالنسبة إليه لاحقا، كلما أراد أن يرغم أنف المقاومة استهدف السكان.

ينبغي أن نتجاوز هذا المشهد، المعركة طويلة، وينبغي عدم الوقوف عندها أو الترويج لها على مواقع التواصل الاجتماعي، فنسهم بذلك في تعزيز هذا النصر المزعوم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.