الشورى ليست طقسا ولا هي وفاء شرط أو تحلة قسم، ودرس من عمر رضي الله عن عمر
الشورى منهج عمل . وهي قيمة كمال وجمال وليست مركب أو مركّب نقص . وشاورهن وخالفوهن قول حتى في حق العزيزات أو الغريرات لا يصح . بل هو تشويه لقيمة الجمال في معدنه . فكيف به في حق من شاب رأسه يحاول البعض أن يحاصره تحت عنوان سبق أن عبر عنه حكيم العرب بن الصمة دريد بقوله عن يوم حنين وكان فيه مع المشركين ( هذا يوم لم أغب عنه ولم أحضره ) .
والشورى في عقول من يعتدونها وقلوبهم هي تطلع إلى الكمال لا يظن عاقل قط أنه له منتهى في مراقيه ، فالكمال دائما لله وحده . ولا أحد في خلق الله فوق أن يستعين ، ولا أحد منهم دون أن يعين ولو بمسح العرق عن جبين .
والشورى أيضا حرص على تحقيق أقصى ما يمكن من المصلحة ، أو درء أكثر ما يمكن من المفسدة ، أو إجراء عملية المعايرة والمفاضلة أو المساوئة بينهما بأدق ما يمكن من موازين الحق والباطل ، والخير والشر ، والصواب والخطأ ..
والشورى سعي إلى توثيق التواصل ، وتحقيق معنى الشراكة وتعزيزها بين أفراد أي منظومة بدأ من فضاء الأسرة الصغيرة ، وانتهاء في فضاء المجتمع الكبير . وقديما كانوا يردون على على من يميّز ويستأثر ويؤثر بقولهم : ( يتولى حارها من تولى قارها ) أو
وإذا تكون كريهـة أدعـى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
والشورى قبل أن تكون مؤسسة أو شرطا أو دورة أو عادة أو طقسا أو منسكا هي لقاح عقول ، وجوعة ذاتية تحتُّ في عقل للتواصل مع أخيه ، وتعطش نفسي يمور في نفوسهم فلا يطفئه إلا نورعقل ينسكب في عقل فيغذيه ويطمئنه ويرويه . وشورى الجماعة فوق شورى الرهط ، وشورى الرهط فوق شورى البعض ، وشورى البعض فوق شورى الفرد ..وتمييع الشورى إفراط و تضييع ، وحجرها والالتفاف عليها افتئات وتفريط .
وتنبع الشورى من شعور حقيق بالقوة يتجاوز بالإنسان ضعفه الإنساني ، فيقترن الحرص على الكمال بالسعي لتوكيد احترام الآخرين . قال ، وسئل عن أمر في غياب أهل خاصته : حتى يحضر الناس فذكروه بإمرته وقالوا له أنت الأمير فقل ما تريد واقض بما تشاء .. فضحك الأمير وقال أبعدكم الله من جلساء سوء ، ربنا تبارك وتعالى قال في أرنب يصيبها محرم في إحرامه : (( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ )) وتريدونني أن أحكم بأمر يعم المسلمين برأيي وكأني لا دريت ولاتليت من قبل ..
فيا ويحهم أي ثقل من عرض ومن دم ومن ألم وتشريد قد تحملوا فضيعوا وفرّطوا ..( هلا سألوا إذ لم يعلموا فإن دواء العي السؤال )
ومن هذا الاهتمام بما يعالج الناس من أمر عام أو خاص يبرز حرصهم على التلفت حولهم عند كل محطة ، يلتمسون فيها لعقولهم وقلوبهم قبسا ، ولموقفهم سندا ، فقد ضل وزل من البشر من ظن أنه الأول والآخر ، وأنه الألف والياء ، وأنه وحده الذي يعلم وغيره من الناس لا يعلمون ، وأنه وحده الذي يقدّر ويقدر وغيره من الناس لا يقدّرون ولا يقدرون .
أما العاقل الحصيف فكأنه أمام ( المهم العام يتحمل مسئوليته ) كمثله أمام ( المهم الخاص يصيبه ) . فكما يهتم ويغتم فيستشير ويتخير في علاج ولد له ( صغير ) من مغص يعاوده ، يهتم ويغتم في أمرعام فيرى دائما في الأمر الصغير كبيرا ، وفي القليل كثيرا ، وفي الحقير عظيما ، وكأن أمر العام عنده أهم من أمر الخاص من ولد يربيه أو مال ينميه . ويرى الأمر الجلل فيه فلا يسبق إليه برأي ، ولا يكتفي به بمن حضر ، أو بمن تحل بشهادته الأزر ، بل يسعى فيه ليجمع عليه فعل الراشدين من أصحاب رسول الله السابقين من أهل بدر ، أو أهل بيعة الرضوان .
ينطلق المستشير من همّ يبعثه ، ومن حافز يحفزه ، إلى العروج في معارج الصواب أو الحرص على الأصوب، وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة ، وجمع القلوب وتحقيق معنى الشراكة ؛ فقد يكون من مقاصد الشورى إيجاد الشراكة في الموقف، وتوثيق التعاون عليه كالذي فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه يوم بدر .
ولقد بلغ الأمر بأمير المؤمنين عمر وهو يروز أمور المسلمين في غدوه ورواحه ، ومدخله ومخرجه ؛ أن يستوقف الصبيان في الأحياء فيطرح عليهم مسائله ، يقول أراهم أحد عقولا وأذكى أفئدة ..
أما حين تكون الشورى طقسا يؤدى كيوم عرفة من العام إلى العام ، أو شرطا موصوفا لا بد من تمرير الرأس تحت حبله المنصوب ، فتلك ليست شورى وإنما هي تحلة قسم أو نذر يستخرج به من البخيل ..على مذهب من يقول : نقول لكم حتى لا تقولوا ما قلنا لكم ...
قلتم لنا وكتر الله خيركم
شاور أخاك إذا نابتك نائبة ... يوماوإن كنت من المشورات
فالعين تبصر منها مادنا ونأى ... ولا ترى نفسـها إلا بمرآة