سورية ...حطام نصف قرن من الجريمة المستمرة
سنة سادسة ثورة
الثورة على الكانتون الأسدي
بحق أو بأخيه تنطلق البكائيات المحلية والعربية والدولية على ما يجري في سورية ، سورية الثورة ، ثورة الحق والعدل والمساواة والحرية . بعض الناس ينطلقون في بكائياتهم من قلوب واهنة ، وإرادات مرتعشة ، وخوف متراكم ، وإيثار للسلامة هي للموت أقرب ، ومن مقارنة السيء بالأسوء المرتهن باللحظة ، العاجز عن استشراف المستقبل . وآخرون من هنا وهناك وهنالك يُسرون ، في بكائهم ، حسوا في ارتغاء . فكأنهم إذ يشكون اللحظة يمجدون الباطل بكل عسفه وظلمه فيرون الخمود استقرارا ، والجمود سلاما ، والموات حياة . ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) أي حياة !! فللدود أيضا حياة ...
يخطئ الأولون ويجدّف الآخرون حين لا يميزون بين ألم النزع ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) ، وبين ألم المخاض ، حيث يتوقع في كل لحظة أن ينبثق فجر جديد ، أو أن يبتسم للحياة ثغر طفل وليد . ويخطئ الأولون ويجدف الآخرون بين ألم يصنعه الصبر على الذلة ، والإمساك على الهُون ، والخضوع تحت أقدام الطغاة والجبارين ؛ وبين ألم تصنعه إرادة الحياة ، والتصميم على الانعتاق ، والثبات على طريق المكرمات .
نعم كانت مكلفة خمس سنوات من عمر الثورة ومبهظة ، ولكنها لم تكن أقل كلفة ، ابدا لمن أدرك شيئا من علم الحساب من الخمسين العجاف التي عاشتها سورية إنسانها وعمرانها . جامعها وجامعتها ، مصحفها وصحيفتها ، حقلها وبستانها ، سوقها ومستشفاها ، من ذلك الذي تعيشه الثورة السورية اليوم.
يبكون بدموع كاذبات على طفل سوري بلا مدرسة اليوم ولا يتساءلون وماذا كان يتعلم الطفل السوري في المدرسة يوم كان يضيع عمرا في الذهاب والإياب ولا علم إلا عن الرئيس الواحد والحزب القائد . فهلا عاد هؤلاء المتعلمون إلى علم الإحصاء والحساب ليدركوا أين كانت تقع المدرسة ( الأسدية ) والجامعة ( الأسدية ) على قوائم إحصاءات التنمية البشرية العالمية ، المجردة من الدلالات التوظيفية السياسية .
يبكون في سورية اليوم القتل ، ولا أحد يحب القتل ولا أحد يختاره طريقا، ولكن ألا يجدر بهم أن يميزوا بين القتل المثمر للحياة ، والذي سماه القرآن الكريم ( شهادة ) وبين موت أو موات الأحياء . ( إنما الميت ميت الأحياء ) ؟! كانت سورية الساكنة المستقرة التي يبكي عليها بعض ويتباكي عليها آخرون هي الأرض الموات بل الأرض اليباب ومعذرة للشاعر العظيم ت . س. إليوت . كانت سورية الدولة العقيم ، والحكومة العقيم . والصحيفة العقيم . والمدرسة والجامعة العقيم ، والمستشفى العقيم...
ومع موات الحياة في سورية ، كان القتل ينهش من جنبات الأرض إنسانها السوري والفلسطيني واللبناني في كل عام بالمئات والألوف ولماذا نذكر الذين لا يتذكرون ...
يبكون على سورية الهوان التي ألفوا و في بعضهم قيل ( ما لجرح بميت إيلام ) . ويتباكون على سورية الامتيازات التي فقدوا أو ربما يفقدون ولذلك يتشبثون بمن ألان لهم واشتد على شعبها ، ووطّأ لهم وشقّ على أهلها ، فشل قدراتهم وأوهى طاقاتهم وبدد شملهم وجعل جهدهم فيما لا يدفع أذى ولا يرد شرا ..
في ميدان الكلمة وميدان الصحيفة يدرك رجل سبعيني مثلي بعض ما كان في سورية من رجال عظام ومضامير للسبق لا ترام . بقية من جيل مازال يحفظ وميض ذكريات خارج إطار ( أهرام – أخبار – جمهورية ) أو خارج إطار ( البعث – الثورة – تشرين )
لتعود الذاكرة إلى ( زهير ) الفتى الصغير ، الذي كان يظن أنه أصبح رجلا في الثالثة عشرة ، يوم كان يقف على رصيف بائع الصحف على زاوية مدخل باب النصر في مدينته حلب ، ويقرأ مع كثير من الناس العابرين عناوين الصحف وعناوين الأخبار . كان ابن الثالثة عشرة يميز بين الصحف وأحزابها وكتابها ، فهذه لحزب الشعب أو الحزب الوطني وتلك للبعث وثالثة للشيوعيين ورابعة للإخوان للمسلمين كان ابن الثالثة عشرة كما يميز بين الصحف وكتابها ، والأخبار ودلالاتها . وأكثر من خمس عشرة صحيفة تستند كل يوم إلى الجدار ويقف الذين لا يريدون أن يدفعوا الخمسة قروش أو العشرة قروش لتصفحها بصريا. من ذاكرة طفل صغير هو اليوم في السبعين أسرد عليكم ما بقي في هذه الذاكرة من عناوين كانت تشكل فضاء سورية السياسي والفكري والثقافي ، الذي لا يعرف عنه شيئا من عاش في ظل سورية الكانتون ، كانتون بيت الأسد المظلم الرطب العفن الضيق ، أذكر لكم عن تعليقات ذلك الجدار عناوين صحف مثل : القبس - الأيام – المنار – اللواء - الوطن – الرأي العام – النور – التربية – برق الشمال –
غابت كل تلك الصحف ليكون الشعب السوري في ظلمة يتخبط ، ولتنعم دولة العدو الصهيوني بلقب الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ، أو بكونها البقعة النظيفة في عالم من القذارة ( شيمون بيريس ) وتتساءلون لماذا يتمسكون ببيت الأسد ؟!
إن الذين يتباكون اليوم أو يبكون (كانتون الأسد ) بكل الموت الذي كان فيه، لم يكونوا لتعني لهم سورية الحية شيئا . وهم لم يقرؤوا ربما عن سورية ( نجيب الريس ) الصحفي الملتهب وعيا وحماسا ، الذي كان بقلمه وبقرائه الأكثر تنورا من كل خريجي الجامعات الأسدية ، مشكلة للاستعمار وللحاكمين باسم الاستعمار . نجيب الريس رحمه الله تعالى الصحفي السوري الذي ما يزال يلهب ذاكرة السوريين بنشيده الذي نظمه في الزنازين المظلمة :
يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما
هل حقا كان نجيب الريس ( يهوى الظلاما ...) أم هي هواية الحندس الذي يسبق الفجر عادة ، ويكون سببا فيه وطريقا إليه ..
يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما ..
النشيد الثوري الملتهب الذي حفظناه صغارا ، ورددناه فألهمنا الكثير كبارا معتقلين ومشردين وما نزال . المتباكون على الكانتون الأسدي الرطب المظلم لم يسمعوا ولم يعرفوا عن سورية إلا ما عرفه ضفدع فقست بيضته في بئر عن عالم البئر وما فيه من وشل وظلمة ورطوبة وعفن وضيق وعلى مثل هذا يبكون أو يتباكون.
جيل لم ينتظر كما كنا ننتظر أعداد المضحك المبكي في عصر أصبح فيه كل شيء في سورية مضحكا مبكيا في وقت معا ...
تريدون أن تعرفوا لماذا ما زال يتمسك رجل سبعيني بالثورة عودوا غلى سورية الجميلة والتي كنا نريدها أجمل في جامعها وكنيستها في مدرستها وجامعتها في صحفها وأحزابها ، في حقولها ومزارعها ومصانعها وأسواقها ...عودوا لتعرفوا أي أفق تنشد الثورة وكم يستحق هذا الأفق من عناء .
فكروا فقط بمعنى أستاذ جامعي من الزمن الجميل لتعرفوا كم هو قبيح وجه الكانتون الأسدي فهذا ليس وجه سورية الحديثة كما يزيفون ...