بين التّشوّه والاستقامة
خارطة سوريا الجغرافيّة السياسيّة متحرّكة كزلزال...الروس يفشلون في تحقيق مبتغاهم الذي أعلنوا عنه وحددوا له زمنا قصيرا. قوى الثورة السوريّة العسكريّة تحرز تقدّما ميدانيا مهما في جبهات حسّاسة، وتتراجع في جبهات أخرى. أماكن تسقط بيد تنظيمات انفصالية مدعومة من النظام وغرف عسكريّة دوليّة، وأماكن جديدة تتحرر من سيطرة النظام...في حين تخفق خارطة الخطاب السياسي والمعنوي لدى أطياف واسعة من السوريين المناهضين لنظام بشار الإرهابي، في تقديم رؤية منطقية منهجية وأخلاقية مبدأيّة، متواكبة مع الحدث والواقع، بعد تجارب خمس سنوات، سواء في التعاطي مع الإنجازات الإيجابيّة في المعركة السوريّة، كالتّحرير ، أو في التّعامل مع الإخفاقات والخسائر وويلات الحرب والنزاع، وتتأخّر في إدراك حقيقة المهمة الوطنيّة الصارمة، التي تحتمم على الفرد والجماعة والمجتمع القيام بمسؤوليات والتزامات مصيرية أكبر من طموحات شخصية أو جماعاتية أو حزبيّة أو عصبويّة. صحيح أن الحرب التي يخوضها نظام بشار وحلفاؤه بدعم دولي شرسة وتنفّذ اتفاقات سريّة ومخططا عدوانيّا تتضح صورته يوما بعد يوم، لكنْ، هناك حالة من الضّعف منتشرة في ذهنيّة الحراك السوري داخل المعارضة السوريّة وخارجها، لا تقتصر على الخطاب السياسي وقادته، بل تضم أصواتا متنوّعة للسوريين المتشابهين أخلاقيا وسياسيا وفكريا واجتماعيا، والمختلفين والمتباينين والمتناقضين، تتحمّل جزءا من مسؤولية هذه الحرب.
الحقيقة أن في المشهد السوري تناقضات وإشكاليّات كثيرة ناجمة عن التراكمات التاريخيّة الانهزاميّة لممارسات نظام الاستبداد والفساد والتمييز الطائفي والمناطقي، الذي أنتج الخوف والقهر والنفاق والاسترقاق، ونجح في تجميد مفاهيم الاستقامة ؛ من إنصاف وعدل ونزاهة وصدق و أمانة ، واشتغل، عوضا عنها، بمنظومة فساد و تخلّف وقهر، حتى استفحلت الداءات الاجتماعيّة، وشوّهت أداء الأفراد والجماعات والمؤسسات وأسست لمفاهيم الفرقة والانقسام. فليس كل من هرب من نظام بشار، أو داعش، أو غيرهما، وعمل في صفوف المعارضة والثورة، يمثّل موقفا نبيلا ورأيا ثوريا، ويجسّد إرادة شجاعة، أو يحمل فكره الوفاء لمغزى وطني أو أخلاقي مناهض للفساد والاستبداد والتبعية والعمالة. هناك خللل وخلخلة في الواقع السوري العام. والواضح الجلي أنّ تضحيات الشعب السوري وبطولاته في مكافحة العدوان الشرس والطغيان، أكبر بكثير من تنظير مثقفيه وتخطيط قادته وخطاب إعلامه.
لم يكن سهلا أن يتعافى السوريون العاملون في الواقع المحيط بالثورة والمعارضة من آثار الدمار الاجتماعي، بسرعة؛ لأنّ ذهنيّة المرحلة السابقة ونتائجها ترسّخت في العقول والآداءات. بالطبع هناك النبلاء الذين يضحّون لأجل مبادىء الثورة والإنسان، لكن،ْ هناك السفلاء الذين يستغلونها.ويسيرون فيها أينما تسير مكاسبهم....ومثلما نشأ، سابقا، في نظام الأسد طبقة رجال الأعمال والمال تعاونت مع النظام وشاركته أعمالها وتجارتها ومكاسبها، وسيّرت ربحها مدعومة به، وصارت جزءا من الفساد والاستغلال والاحتكار، أخذت، أيضاً، تنشأ الطبقة المشابهة لها من رجال الأعمال في صفوف المعارضة الواسعة ومؤسساتها ومنظماتها العاملة في الداخل والخارج والتي لم تتطهّر من بقايا النظام وعيون عملائه وحملة العقل الانتفاعي وذهنية الجاهلين، تمارس السلوك نفسه، وقد تحمل أيضا صبغات أيديولوجية فوقيّة. وهو ما زاد في المأزق الوطني؛ فمن اعتاد أن يخرب بيت غيره ليحقق مصلحته، ويكتب في الآخرين التقارير المؤذية التي ترفع من أسهمه عند أسياده، ويعد لغيره الأفخاخ والمصائد، لا يتوانى عن تكرار ذلك في ظرف آخر. لكنّ صوته لن يحمل ثورة أو معارضة وطنيّة، حتى لو صرخ بأعلى الأبواق الثوريّة. المسألة مسالة وقت يكشف الحقيقة، وتجارب تفضح الكذب.
الاجهزة القمعية متواجدة في الاجسام السياسية والعسكرية، وموضوع الولاءات والعمالة لأطراف ذات نفوذ سياسي موجودة، وهي التي تسهم في هدر جهود المقاومة البطولية، التي يقوم بها السوريون. تجار الحروب موجودون. وسائل الإعلام تغص بهذه الأجهزة. والأحزاب، والمنظمات كذلك. المعارضات السياسية والعسكريّة مخترقة بهؤلاء وبأذرعة استخبارات دولية. لكنّ إرادة الشعب هي الرقم الصعب الذي سيغير المعادلة، ويقلب الطاولة على المشاريع التخريبيّة.
الحرب في سوريا وعلى سوريا، جزء من قضيّة عالميّة، تتصارع فيها القوى الدوليّة والأنظمة والمنظومات الأيدولوجيّة. فالنظام العالمي بقواه المختلفة يتحارب في سوريا. هو ليس دولة واحدة ولا دين واحد ولا مذهب واحد. وليس بثابت بل متحرك وفق المصالح. هو نظام مالي ناهب بقوى سياسية ودينيّة وقومية مختلفة متحالفة، يقاتل للهيمنة والنفوذ والسيطرة على الموارد والتحكّم بالطاقات، يمتدّ عميقا في المجتمعات متجاوزا أي نظام سياسي يعوّقه في تحقيق مصالحه الاقتصادية والسياسية. هذا النظام العالمي، ينتج فكرا ناهبا مهيمنا، يوازي الفكر الشمولي الذي أنتجته الحضارة ة الغربيّة في النازية والشيوعية، لكن بتقنيات حداثيّة، مستفيدا من ظروف العولمة والاتصالات، ومغريات الشعارات الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، يخلو من مفاهيم الإنصاف والعدل، ومقطوع عن سياق إنسانيته. لأنّه يستخدم أدوات الدين والقومية بعنصريّة، وبحسب مصالحه لتفكيك المجتمع وإثارة النزاعات الأهلية.
وبالطبع لا تقع فريسة سهلة لهذا النظام، إلا الشعوب التي نخرتها أمراض الاستبداد والفساد، فتتسع الصراعات التي تهدّ في كيان الأمة.
هذا الواقع شديد الوضوح في سوريا وعلى ثورتها. فالنظام استمر على مدى خمس سنوات ونصف، على الرغم من أنه مارس جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وهجّر الملايين، واعتقل وجرح وقتل الملايين، وراح يهدّد أمن المنطقة واستقرارها ، واستجلب الميليشيات ااطائفية والمرتزقة من كل العالم، وفقد كل شرعية أخلاقية وسياسية. استمر لأنّه النموذج الأمثل لحماية مصالح قوى في النظام العالمي الاستعماري، ولأنه مطلوب حتى انتهاء مهمته في إدارة الصراع وتأجيجه لتقسيم سوريا وتدميرها. لاشك أن أطراف المعارضة السورية لها أخطاؤها الكثيرة، وهي منقسمة متصارعة، وتعاني مؤسساتها من الفساد والفوضى؛ لكنها لا تتحمل في الأساس مسؤولية الحرب على سوريا. نظام الأسد الطائفي الذي مارس العنف والإرهاب في الشعب السوري هو المسؤول. كما لا تستطيع وحدها، أن تتحمّل مسؤولية حرب قوى دوليّة. صحيح أن هناك حالة اندساس استخباراتي يسعى لتوجيه أعمال المعارضة؛ لكن، هناك الأهم وهو واقع الحراك السوري الشعبي، وفيه من يؤيد نظام بشار، ومن يهاجم المعارضة لمجرد كونها معارضة قبل أن يهاجمها في جودة عملها وأصالة مبادئها. وهو ما يجعل الحراك مضطربا.
النفاق والخسة والتخاذل من صفات المجتمع المنهار. ولا يمكن أن ينهض المجتمع ويتغلب على انهياره بجسم ضعيف تفشّت فيه الأمراض الخبيثة. لا يقوى أن يواجه الحرب الضروس والعدوان الشرس، إلا إذا ثار على ضعفه وأحيا قوته بطاقة جديدة نظيفة صالحة للواقع ذات كبرياء. فصفوف الشعب والمعارضة الرسمية وغير الرسمية، السياسية، والعسكرية، والمدنيّة والثقافيّة، سيينقلب عليها التاريخ ويهزمها شرّ هزيمة، إن لم تستقم في مسيرها وفق رابطة الأخوة الوطنيّة، وتكافح ملتحمة وجدانيّا، ومنسجمة عقليّا من أجل سوريا، كوطن واحد، ودولة واحدة للشعب السوري...